وَتُخْفُونَ كَثِيراً وَعُلِّمْتُمْ ما لَمْ تَعْلَمُوا أَنْتُمْ وَلا آباؤُكُمْ قُلِ اللهُ ثُمَّ ذَرْهُمْ فِي
خَوْضِهِمْ يَلْعَبُونَ (٩١)﴾
ثمّ لمّا أمر الله نبيّه صلىاللهعليهوآله بترك سؤال الأجر على تبليغ القرآن ، وأخبر بأنّه نزل من الله تذكرة لجميع النّاس ، وكان المشركون وأهل الكتاب منكرين لرسالته وكتابه ، قائلين له : ما نزّل الله عليك كتابا ودينا ، ردّهم الله تعالى بقوله : ﴿وَما قَدَرُوا اللهَ حَقَّ قَدْرِهِ﴾ وما عرفوه حقّ معرفته.
في وجوب ارسال الرسول وانزال الكتاب على الله تعالى عقلا
وعن ابن عبّاس : ما عظّموه حقّ تعظيمه (١) ، حيث إنّهم طعنوا في حكمته ولطفه ، وحسبوه لاعبا عابثا بخلقه العالم ﴿إِذْ قالُوا﴾ إنكارا لرسالتك وكتابك ، وكفرانا لأعظم نعمائه عليهم : ﴿ما أَنْزَلَ اللهُ عَلى بَشَرٍ مِنْ شَيْءٍ﴾ من الوحي والكتاب ، مع وضوح أنّه مناف لحكمته البالغة وتنزّهه من العبث ، فإنّه لا حكمة في خلق العالم إلّا تكميل النّفوس البشريّة ، وفعليّة استعداداتهم للفيوضات الأبديّة بسبب كمال معرفتهم ، وصلاح أخلاقهم ، وحسن أعمالهم ، وذلك لا يتم إلّا ببعث الرّسول ، وإنزال الكتاب ، وجعل القوانين والأحكام والثّواب والعقاب والوعظ والتّذكير ، فالاعتراف بحكمته تعالى ملازم للاعتراف بجميع ذلك.
روي أنّ مالك بن الصّيف من أحبار اليهود ورؤسائهم ، خرج مع نفر إلى مكّة معاندين ، ليسألوا رسول الله صلىاللهعليهوآله « عن أشياء ، وكان رجلا سمينا ، فأتى رسول الله صلىاللهعليهوآله بمكّة فقال [ له ] صلىاللهعليهوآله : أنشدك بالذي أنزل التّوراة على موسى ، هل تجد فيها أنّ الله يبغض الحبر السّمين ؟ » قال : نعم. قال : « فأنت الحبر السّمين ، وقد سمنت من مكأكلتك (٢) التي تطعمك اليهود ولست تصوم » (٣) . فضحك القوم ، فخجل مالك بن الصّيف ، فقال (٤) : ما أنزل الله على بشر من شيء ، فلمّا رجع مالك إلى قومه قالوا له : [ ويلك ، ما هذا الذي بلغنا عنك ، أ ليس أن الله أنزل التّوراة على موسى ، فلم قلت ما قلت ؟ قال : أغضبني محمّد ، فقلت ذلك ، قالوا له : ] وأنت إذا غضبت تقول على الله غير الحقّ وتترك دينك ، فأخذوا الرّئاسة والحبريّة منه. وجعلوهما إلى كعب بن الأشرف. فنزلت هذه الآية (٥) .
وأمر الله نبيّه صلىاللهعليهوآله بتبكيتهم ونقض قولهم بقوله : ﴿قُلْ﴾ يا محمّد لهم : ﴿مَنْ أَنْزَلَ﴾ من السّماء ﴿الْكِتابَ الَّذِي جاءَ بِهِ مُوسى﴾ حال كون ذلك الكتاب ﴿نُوراً﴾ وظاهرا بنفسه ، أو مظهرا لما خفي من العلوم والمعارف ﴿وَهُدىً﴾ ورشادا ﴿لِلنَّاسِ﴾ إلى طريق الفلاح ومقام القرب من الله ، أو إلى
__________________
(١) تفسير الرازي ١٣ : ٧٢.
(٢) المأكلة : ما يؤكل ، والطّعمة والمرتزق.
(٣) زاد في تفسير روح البيان : أي تمسك.
(٤) زاد في تفسير روح البيان : غضبا.
(٥) تفسير روح البيان ٣ : ٦٣.