وعلى الثّالث سمن ، وعلى الرّابع جبن ، وعلى الخامس قديد ، فقال شمعون : يا روح الله أمن طعام الدّنيا هذا أم من طعام الآخرة ؟ فقال عيسى : ليس شيء ممّا ترون من طعام الدّنيا ، ولا من طعام الآخرة ، ولكنّه شيء افتعله الله بالقدرة الغالبة ، كلوا ما سألتم ، يمددكم ويرزقكم (١) من فضله.
فقال الحواريّون : يا روح الله ، لو أريتنا من هذه الآية اليوم آية اخرى ؟ فقال عيسى عليهالسلام : يا سمكة ، احيي بإذن الله تعالى ، فاضطربت السّمكة وعاد عليها فلوسها وشوكها ففرقوا منها ، فقال [ عيسى ] : ما لكم تسألون أشياء إذا اعطيتموها كرهتموها ! ما أخوفني عليكم أن تعذّبوا ! يا سمكة ، عودي كما كنت بإذن الله ، فعادت السّمكة مشويّة كما كانت ، فقالوا : يا روح الله ، كن أوّل من يأكل منها ثمّ نأكل نحن ، فقال عيسى : معاذ الله أن آكل منها ، ولكن يأكل منها من سألها ، فخافوا أن يأكلوا منها ، فدعا أهل الفاقة والزّمناء والمرضى والمبتلين فقال : كلوا منها ، ولكم الهناء ولغيركم البلاء ، فأكل منها ألف وثلاثمائة رجل وامرأة من فقير ومريض ومبتلى ، وكلّهم شبعان يتجشأ (٢) .
في ذكر مسخ أصحاب المائدة
ثمّ نظر عيسى إلى السّمكة فإذا هي كهيئتها حين نزلت من السّماء ، ثمّ طارت المائدة صعدا وهم ينظرون إليها حتّى توارت عنهم ، فلم يأكل يومئذ منها زمن (٣) إلّا صحّ ، ولا مريض إلّا برئ ، ولا فقير إلّا استغنى ، ولم يزل غنيّا حتّى مات ، وندم الحواريّون ومن لم يأكل منها ، وكانت إذا نزلت اجتمعت الأغنياء والفقراء والصّغار والكبار يتزاحمون عليها ، فلمّا رأى ذلك عيسى جعلها نوبة بينهم ، فلبثت أربعين صباحا تنزل ضحى ، فلا تزال منصوبة يؤكل منها حتّى إذا فاء الفيئ طارت صعدا وهم ينظرون في ظلّها حتّى توارت عنهم ، وكانت تنزل غبّا يوما ويوما.
فأوحى الله إلى عيسى عليهالسلام : اجعل مائدتي للفقراء دون الأغنياء ، فعظم ذلك على الأغنياء حتّى شكّوا وشكّكوا النّاس فيها ، فأوحى الله إلى عيسى عليهالسلام : إنّي شرطت على المكذّبين شرطا أنّ من كفر بعد نزولها اعذّبه عذبا لا اعذّبه أحدا من العالمين. فقال عيسى عليهالسلام : إن تعذّبهم فإنّهم عبادك ، وإن تغفر لهم فإنك أنت العزيز الحكيم ، فمسخ منهم ثلاثمائة وثلاثة وثلاثون رجلا ، باتوا ليلتهم على فراشهم مع نسائهم في ديارهم ، فأصبحوا خنازير يسعون في الطّرقات والكناسات ، ويأكلون العذرة والحشوش ، فلمّا رأى النّاس ذلك فزعوا إلى عيسى عليهالسلام وبكوا ، وبكى على الممسوخين أهلوهم ، فعاشوا ثلاثة أيّام ثم هلكوا (٤) .
وفي ( المجمع ) : وفي تفسير أهل البيت عليهمالسلام : « كانت المائدة تنزل عليهم فيجتمعون عليها ويأكلون
__________________
(١) في المصدر : ويزدكم.
(٢) تجشأت المعدة : تنفست من امتلاء.
(٣) الزّمن : المبتلى بمرض مزمن طالت مدته.
(٤) مجمع البيان ٣ : ٤١٠ ، تفسير الصافي ٢ : ٩٨.