الرابع : أنّ الله تعالى جعل الكعبة قياما للنّاس في دينهم بسبب ما جعل الله فيها [ من ] المناسك العظيمة والطّاعات الشّريفة ، وجعل تلك المناسك سببا لحطّ السّيّئات ورفع الدّرجات وكثرة الكرامات(١).
وعن الصادق سلام الله عليه : « من أتى هذا البيت يريد شيئا في الدّنيا والآخرة أصابه » (٢) .
وعن القمّي رحمهالله ، قال : ما دامت الكعبة قائمة ويحجّ النّاس إليها لم يهلكوا ، فإذا هدمت وتركوا الحجّ هلكوا (٣) .
﴿وَ﴾ جعل ﴿الشَّهْرَ الْحَرامَ﴾ الذي يؤدّى فيه الحجّ ﴿وَالْهَدْيَ﴾ الذي يهدى إلى البيت ويذبح عنده ﴿وَالْقَلائِدَ﴾ التي يقلّدون الهدي بها قياما للنّاس من العرب وأمثالهم ، وسببا لراحتهم والسّعة في معائشهم.
أمّا الشّهر الحرام فلترك العرب فيه القتال والغارة ، فلذا كان الخوف يزول عنهم ، وكانوا يسافرون للحجّ والتّجارة ، ويشتغلون باكتساب منافع الدّين والدّنيا ، وإصلاح المعاش والمعاد.
وأمّا الهدي فكانوا يذبحونه هناك ويفرّقون لحمه بين الفقراء ، فيصلح به معيشتهم ، ويقوم به أمر دينهم ودنياهم.
وأمّا القلائد - وهي الناقة والبقرة وكلّ ما يجوز في الهدي - فإنّ العرب كانوا مبالغين في التّحرّز عن التّعرّض لها ، حتّى إنّهم كانوا يقلّدون رواحلهم عند رجوعهم من مكّة من لحاء شجرة الحرم فيأمنون بذلك ، وكانوا يموتون من الجوع ولا يتعرضون لها : وهي أفضل الهدايا ، ولذا خصّها بالذّكر.
ثمّ ذكر سبحانه علّة جعل الأمور المذكورة قياما للنّاس بقوله : ﴿ذلِكَ﴾ الجعل المذكور ، أو التّنبيه بذلك ﴿لِتَعْلَمُوا﴾ بالنّظر إلى المصالح والمنافع الدّينيّة والدّنيويّة ﴿أَنَّ اللهَ يَعْلَمُ ما فِي السَّماواتِ وَما فِي الْأَرْضِ﴾ وحقائق جميع الموجودات ، ومصالحها ومفاسدها.
ثمّ أكّد سعة علمه بقوله : ﴿وَأَنَّ اللهَ﴾ بذاته ﴿بِكُلِّ شَيْءٍ﴾ من الأشياء ﴿عَلِيمٌ﴾ فعلم أنّ طباع العرب مجبولة على الحرص الشّديد بالمال والقتل والغارة ، وعلم أنّه لو دامت بهم هذه الحالة لأدّى ذلك إلى فنائهم وانقطاعهم بالكلّية ، فشرع لهم حرمة القتال في الأشهر الحرم وفي الحرم ، وألزمهم بحرمة البيت الحرام حتّى يقدروا على تحصيل ما يحتاجون إليه ، وإصلاح معاشهم في الأشهر المعيّنة والمكان المعيّن ؛ كذا قيل (٤).
__________________
(١) تفسير الرازي ١٢ : ١٠٠.
(٢) مجمع البيان ٣ : ٣٨٢ ، تفسير الصافي ٢ : ٩٠.
(٣) تفسير القمي ١ : ١٨٧ ، تفسير الصافي ٢ : ٩٠.
(٤) تفسير الرازي ١٢ : ١٠١.