ثمّ لمّا ناظر الله سبحانه (١) اليهود والنّصارى ، وأبطل عقائدهم الفاسدة بالحجج القاطعة ، ومدح النّصارى وقسّيسيهم ورهبانهم بمودّة المؤمنين ، وعدم الاستنكاف عن التّسليم للحقّ ، وكان مجال توهّم حسن الرّهبانيّة ومشروعيتها في دين الإسلام ، بيّن حرمتها في هذا الدّين ، وإباحة المأكولات والمشروبات الطّيّبة ، بقوله : ﴿يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تُحَرِّمُوا﴾ على أنفسكم ﴿طَيِّباتِ ما أَحَلَّ اللهُ لَكُمْ﴾ ولذائذ ما أباحه ممّا لا ضرر فيه عليكم ﴿وَلا تَعْتَدُوا﴾ ولا تجاوزوا عن الحدود المقرّرة في دينكم ﴿إِنَّ اللهَ لا يُحِبُّ الْمُعْتَدِينَ﴾ عن حدوده ، المجاوزين عن شرائعه.
في التزام بعض الصحابة بترك الطيّبات
عن الصادق عليهالسلام : « نزلت في أمير المؤمنين صلوات الله عليه وبلال وعثمان بن مظعون ، فأمّا أمير المؤمنين فحلف أن لا ينام بالليل أبدا ، وأمّا بلال فإنّه حلف أن لا يفطر بالنّهار أبدا ، وأمّا عثمان بن مظعون فإنّه حلف أن لا ينكح أبدا » .
وزاد القمّي : « فدخلت امرأة عثمان على عائشة وكانت امرأة جميلة ، فقالت عائشة : مالي أراك متعطلة (٢) ؟ فقالت : لمن أتزيّن ، فو الله ما قربني زوجي منذ كذا وكذا ، فإنّه قد ترهّب ولبس المسوح (٣) وزهد في الدّنيا ، فلمّا دخل رسول الله صلىاللهعليهوآله أخبرته عائشة بذلك ، فخرج فنادى : الصّلاة جامعة ، فاجتمع النّاس فصعد المنبر ، فحمد الله وأثنى عليه ، ثمّ قال : ما بال أقوام يحرّمون على أنفسهم الطيّبات ؟ ! [ ألا ] إنّي أنام باللّيل ، وأنكح وأفطر بالنّهار ، فمن رغب عن سنتي فليس منّي ، فقام هؤلاء فقالوا : يا رسول الله ، فقد حلفنا على ذلك. فأنزل الله ﴿لا يُؤاخِذُكُمُ اللهُ بِاللَّغْوِ فِي أَيْمانِكُمْ ﴾(٤) .
وفي ( الاحتجاج ) : عن الحسن بن علي عليهماالسلام - في حديث - أنّه قال لمعاوية وأصحابه : « أنشدكم الله ، أتعلمون أنّ عليّا أوّل من حرّم الشهوات على نفسه من أصحاب رسول الله صلىاللهعليهوآله ، فأنزل الله : ﴿يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تُحَرِّمُوا طَيِّباتِ ما أَحَلَّ اللهُ لَكُمْ ﴾(٥) .
في نهي النبيّ صلىاللهعليهوآله عن التّرهب
وعن بعض مفسّري العامّة أنّه ذكر النبيّ صلىاللهعليهوآله يوما النّار ، ووصف القيامة ، وبالغ في الإنذار ، فرقّ له النّاس وبكوا ، فاجتمع عشرة من الصّحابة في بيت عثمان بن مظعون الجمحي ، وتشاوروا واتّفقوا على أن يترهّبوا ويلبسوا المسوح ، ويجبّوا مذاكيرهم (٦) ، ويصوموا الدّهر ، ويقوموا اللّيل ولا يناموا على الفراش ، ولا يأكلوا اللّحم والودك (٧) ، ولا يقربوا النّساء
__________________
(١) زاد في النسخة : مع.
(٢) أي غير متزينة بالحلي.
(٣) المسوح : جمع مسح ، وهو كساء من شعر ، ولباس الراهب.
(٤) مجمع البيان ٣ : ٣٦٤ ، تفسير القمي ١ : ١٧٩ ، تفسير الصافي ٢ : ٧٩ ، والآية من سورة المائدة : ٥ / ٨٩.
(٥) الاحتجاج : ٢٧٣ ، تفسير الصافي ٢ : ٨٠.
(٦) جبّ المذاكر : قطعها.
(٧) الودك : الدّسم والشحم.