ثمّ وصف شدّة تأثّرهم باستماع الحقّ بقوله : ﴿وَإِذا سَمِعُوا ما أُنْزِلَ إِلَى الرَّسُولِ﴾ من آيات القرآن ﴿تَرى أَعْيُنَهُمْ﴾ عند استماعه ﴿تَفِيضُ﴾ وتصبّ ﴿مِنَ الدَّمْعِ﴾ لامتلائها منه ﴿مِمَّا عَرَفُوا﴾ ما انزل على الرّسول ﴿مِنَ الْحَقِ﴾ .
عن ابن عبّاس : يريد النّجاشي وأصحابه ، وذلك أنّ جعفر الطّيّار قرأ عليهم سورة مريم ، فأخذ النّجاشي تبنة من الأرض وقال : والله ما زاد على ما قال الله في الإنجيل مثل هذا ، وما زالوا يبكون حتّى فرغ جعفر من القراءة (١) .
ثمّ كأنّه قيل : ما كانوا يقولون عند استماع القرآن ؟ (٢) فأجاب بقوله : ﴿يَقُولُونَ رَبَّنا آمَنَّا﴾ بأنّ ما سمعناه هو الحقّ ، وشهدنا به ، إذن ﴿فَاكْتُبْنا﴾ وأثبت أسماءنا ﴿مَعَ﴾ أسماء ﴿الشَّاهِدِينَ﴾ على أنّ ما أنزلته هو الحقّ ، واجعلنا في زمرتهم ﴿وَما﴾ العذر ﴿لَنا﴾ ولأيّ علّة ﴿لا نُؤْمِنُ بِاللهِ وَما جاءَنا﴾ مع وضوح أنّه ﴿مِنَ الْحَقِ﴾ الثّابت من عند الله ، ﴿وَ﴾ الحال أنّا ﴿نَطْمَعُ﴾ ونتوقّع ﴿أَنْ يُدْخِلَنا رَبُّنا﴾ في جنّته ﴿مَعَ الْقَوْمِ الصَّالِحِينَ﴾ ويرزقنا مرافقتهم وصحبتهم ﴿فَأَثابَهُمُ اللهُ﴾ وجازاهم ﴿بِما قالُوا﴾ من الاعتراف بالحقّ ، والشّهادة عليه ، وإظهار الإيمان عن صميم القلب.
عن ابن عبّاس [ قال : قوله : ﴿بِما قالُوا﴾ يريد بما سألوا ] ، يعني قولهم : ﴿فَاكْتُبْنا مَعَ الشَّاهِدِينَ﴾(٣).
﴿جَنَّاتٍ﴾ وبساتين ذات أشجار ملتفّة ، وغرف عالية ﴿تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهارُ﴾ الكثيرة ، حال كونهم ﴿خالِدِينَ فِيها﴾ أبدا ﴿وَذلِكَ﴾ الجزاء الأوفى من الله ﴿جَزاءُ الْمُحْسِنِينَ﴾ في عقائدهم وأقوالهم وأعمالهم.
﴿وَالَّذِينَ كَفَرُوا وَكَذَّبُوا بِآياتِنا أُولئِكَ أَصْحابُ الْجَحِيمِ (٨٦)﴾
ثمّ أردف الله سبحانه وعد المحسنين بالثّواب بإيعاد الكافرين بالعقاب بقوله : ﴿وَالَّذِينَ كَفَرُوا﴾ بالله ورسوله ﴿وَكَذَّبُوا بِآياتِنا﴾ من القرآن بعد ما سمعوها ، وجحدوا المعجزات بعدما شاهدوها ﴿أُولئِكَ﴾ في الآخرة ﴿أَصْحابُ الْجَحِيمِ﴾ وملازموها.
﴿يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تُحَرِّمُوا طَيِّباتِ ما أَحَلَّ اللهُ لَكُمْ وَلا تَعْتَدُوا إِنَّ اللهَ لا
يُحِبُّ الْمُعْتَدِينَ (٨٧)﴾
__________________
(١) تفسير الرازي ١٢ : ٦٨.
(٢) تفسير أبي السعود ٣ : ٧٢.
(٣) تفسير الرازي ١٢ : ٦٩.