ثمّ أنّه تعالى بعد ذمّهم بموالاة المشركين ، ذمّهم بمعاداة المؤمنين كمعاداة المشركين لهم بقوله : ﴿لَتَجِدَنَ﴾ بالله يا محمّد ﴿أَشَدَّ النَّاسِ عَداوَةً﴾ وأكثرهم بغضا ﴿لِلَّذِينَ آمَنُوا﴾ بك واتّبعوك ﴿الْيَهُودَ وَالَّذِينَ أَشْرَكُوا﴾ من العرب لشدّة حرص الفريقين على الدّنيا والجاه.
قيل : إنّ مذهب اليهود وجوب الإضرار بمن خالفهم في الدّين ، وأمّا النّصارى فمذهبهم كفّ الأذى عن الغير مطلقا (١) ، ولذا قال سبحانه : ﴿وَلَتَجِدَنَّ أَقْرَبَهُمْ مَوَدَّةً لِلَّذِينَ آمَنُوا الَّذِينَ قالُوا﴾ وادّعوا ﴿إِنَّا نَصارى﴾ .
عن ابن عبّاس رضى الله عنه : المراد به النّجاشي وقومه الّذين قدموا من الحبشة على رسول الله صلىاللهعليهوآله وآمنوا به ، ولم يرد جميع النّصارى مع ظهور عداوتهم للمسلمين (٢) .
قيل : إنّ الغرض من بيان التّفاوت تخفيف أمر اليهود على الرّسول صلىاللهعليهوآله (٣) ، وتفريغ خاطره عنهم ، وعدم مبالاته بهم.
قيل : كان جعفر يوم وصل المدينة إلى رسول الله صلىاللهعليهوآله وصل في سبعين رجلا عليهم ثياب صوف ، منهم اثنان وستّون رجلا من الحبشة ، وثمانية من أهل الشّام منهم بحيرا الرّاهب ، فقرأ رسول الله صلىاللهعليهوآله عليهم سورة يس إلى آخرها ، فبكوا حين سمعوا القرآن ، فآمنوا وقالوا : ما أشبه هذا بما كان ينزل على عيسى. فأنزل الله هذه الآية (٤) .
ثمّ كأنّه قيل : ما سبب كونهم أقرب مودّة ؟ (٥) فأجاب بقوله : ﴿ذلِكَ﴾ الأقربيّة التي قلنا ﴿بِأَنَّ مِنْهُمْ قِسِّيسِينَ﴾ وعلماء ، ﴿وَ﴾ منهم ﴿رُهْباناً﴾ وعبّادا ﴿وَأَنَّهُمْ﴾ بسبب علمهم وزهدهم ﴿لا يَسْتَكْبِرُونَ﴾ عن قبول الحقّ ، ولا يتأنّفون من الإيمان بك كاليهود.
قيل : كان الّذين آمنوا به أصحاب الصّوامع (٦) .
﴿وَإِذا سَمِعُوا ما أُنْزِلَ إِلَى الرَّسُولِ تَرى أَعْيُنَهُمْ تَفِيضُ مِنَ الدَّمْعِ مِمَّا عَرَفُوا مِنَ
الْحَقِّ يَقُولُونَ رَبَّنا آمَنَّا فَاكْتُبْنا مَعَ الشَّاهِدِينَ (٨٣) وَما لَنا لا نُؤْمِنُ بِاللهِ وَما جاءَنا
مِنَ الْحَقِّ وَنَطْمَعُ أَنْ يُدْخِلَنا رَبُّنا مَعَ الْقَوْمِ الصَّالِحِينَ (٨٤) فَأَثابَهُمُ اللهُ بِما قالُوا
جَنَّاتٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهارُ خالِدِينَ فِيها وَذلِكَ جَزاءُ
الْمُحْسِنِينَ (٨٥)﴾
__________________
( ١ و٢ و٣ ) . تفسير الرازي ١٢ : ٦٦.
(٤) تفسير روح البيان ٢ : ٤٢٨.
(٥ و٦) . تفسير روح البيان ٢ : ٤٢٨.