رجل مخلوق لله ، ومربوب له ، وإنّما امتاز عن غيره بأنّه ﴿رَسُولٌ﴾ ومبلّغ عن الله شرائعه وأحكامه ، وله معجزات باهرة ﴿قَدْ خَلَتْ﴾ ومضت في العالم ﴿مِنْ قَبْلِهِ الرُّسُلُ﴾ الكثيرة ، خصّهم بالمعاجز العظيمة ؛ كاليد البيضاء ، وإحياء العصا وجعلها ثعبانا ، وفلق البحر ، وغير ذلك ، ولم يدّع أحد ألوهيّتهم بظهور المعجزات منهم ، هذا شأن عيسى عليهالسلام ، ﴿وَ﴾ أمّا ﴿أُمُّهُ﴾ مريم فإنّها أيضا امرأة مخلوقة ، غاية شأنها أنّها ﴿صِدِّيقَةٌ﴾ موقنة ، مصدّقة بكلمات ربّها وكتبه كسائر الصدّيقات ، مثل حوّاء وآسية. وأدلّ الدّليل على عدم كونهما إلهين أنّهما ﴿كانا﴾ في الدّنيا ﴿يَأْكُلانِ الطَّعامَ﴾ والإله الخالق منزّه عن الحاجة إلى الطّعام والشّراب.
في ( العيون ) : عن الرضا عليهالسلام : « معناه : أنّهما كانا يتغوّطان » (١) .
والقمّي : « كانا يحدثان ، فكنّى عن الحدث ، وكلّ من أكل الطّعام يحدث » (٢) .
أقول : عليه بعض مفسّري العامّة (٣) .
عن ( الاحتجاج ) : عن أمير المؤمنين صلوات الله عليه ، في جواب الزّنديق ، قال : « وأمّا هفوات ا لأنبياء وما بيّن الله في كتابه ، فإنّ ذلك من أدلّ الدلائل على حكمة الله الباهرة » إلى أن قال : « ألم تسمع إلى قوله في صفة عيسى ، حيث قال فيه وفي امّه : ﴿كانا يَأْكُلانِ الطَّعامَ﴾ يعني : أنّ من أكل الطّعام كان له ثقل (٤) ، ومن كان له ثقل فهو بعيد ممّا أدّعته النّصارى لابن مريم » (٥) .
ثمّ باهى سبحانه بإبطال عقيدتهم بأحسن بيان بقوله : ﴿انْظُرْ﴾ يا محمّد ﴿كَيْفَ نُبَيِّنُ﴾ ونوضّح ﴿لَهُمُ الْآياتِ﴾ ونقيم البراهين المحكمات على بطلان عقائدهم.
ثمّ بالغ سبحانه في الإعلان بغاية ضلالتهم وبعدهم عن الحقّ بقوله : ﴿ثُمَّ انْظُرْ أَنَّى يُؤْفَكُونَ﴾ وكيف يصرفون عن الحقّ واستماع الآيات والتّأمّل فيها.
﴿قُلْ أَ تَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللهِ ما لا يَمْلِكُ لَكُمْ ضَرًّا وَلا نَفْعاً وَاللهُ هُوَ السَّمِيعُ
الْعَلِيمُ (٧٦)﴾
ثمّ أمر سبحانه النبيّ صلىاللهعليهوآله بتوبيخهم ، وإقامة البرهان على فساد عقيدتهم بقوله : ﴿قُلْ﴾ يا محمّد لهؤلاء النصارى : ﴿أَ تَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللهِ﴾ وممّا سواه ﴿ما لا يَمْلِكُ﴾ بنفسه وبذاته ﴿ضَرًّا﴾ من
__________________
(١) عيون أخبار الرضا عليهالسلام ٢ : ٢٠١ / ١ ، تفسير الصافي ٢ : ٧٣.
(٢) تفسير القمي ١ : ١٧٦ ، تفسير الصافي ٢ : ٧٣.
(٣) راجع : تفسير القرطبي ٦ : ٢٥٠.
(٤) كذا في المصدر والنسخة ، والظاهر : ثفل ، كما في تفسير الصافي ، والثفل : ما سفل أو رسب من كل شيء.
(٥) الاحتجاج : ٢٤٩ ، تفسير الصافي ٢ : ٧٣.