﴿وَحَسِبُوا أَلاَّ تَكُونَ فِتْنَةٌ فَعَمُوا وَصَمُّوا ثُمَّ تابَ اللهُ عَلَيْهِمْ ثُمَّ عَمُوا وَصَمُّوا كَثِيرٌ
مِنْهُمْ وَاللهُ بَصِيرٌ بِما يَعْمَلُونَ (٧١)﴾
ثمّ أشار سبحانه إلى علّة جرأتهم على الأنبياء بقوله : ﴿وَحَسِبُوا﴾ وظنّوا لغرورهم بكونهم أولاد الأنبياء ، وأنّهم بشفاعتهم يدفعون عنهم العذاب ﴿أَلَّا تَكُونَ﴾ لهم بمعاصيهم ﴿فِتْنَةٌ﴾ وبلاء من الله ﴿فَعَمُوا﴾ عن رؤية الآيات ، وكفّ بصرهم عن إدراك المعجزات ﴿وَصَمُّوا﴾ عن استماع الحقّ الذي ألقى إليهم الرّسل.
قيل : كانت تلك الحالة إلى زمان داود وسليمان عليهماالسلام ﴿ثُمَّ تابَ اللهُ عَلَيْهِمْ﴾(١) بسبب إيمانهم بهما ، وانقيادهم لهما ﴿ثُمَّ عَمُوا﴾ عن الدّين وطريق الهداية ﴿وَصَمُّوا﴾ عن استماع مواعظ الأنبياء مرّة اخرى ، ولكن لا كلّهم بل ﴿كَثِيرٌ مِنْهُمْ﴾ بعد بعثة عيسى عليهالسلام وخاتم الأنبياء صلىاللهعليهوآله ؛ لأنّ قليلا منهم آمنوا بهما.
قيل : إنّهم أفسدوا حتّى سلّط الله عليهم بخت نصّر ، فقتل من أهل بيت المقدس أربعين ألفا ممّن يقرأ التّوراة ، وذهب بالبقيّة إلى أرضه ، فبقوا هنالك على أقصى ما يكون من الذّل والنّكد إلى أن أحدثوا توبة صحيحة ، فردّهم الله إلى أحسن حال ، ثمّ أفسدوا مرّة أخرى فسلّط الله عليهم ملك بابل (٢) .
ثمّ هدّدهم على سيّئاتهم بقوله : ﴿وَاللهُ بَصِيرٌ﴾ وخبير ﴿بِما يَعْمَلُونَ﴾ من تكذيب الرّسل وقتلهم ، وسائر معاصيهم.
﴿لَقَدْ كَفَرَ الَّذِينَ قالُوا إِنَّ اللهَ هُوَ الْمَسِيحُ ابْنُ مَرْيَمَ وَقالَ الْمَسِيحُ يا بَنِي
إِسْرائِيلَ اعْبُدُوا اللهَ رَبِّي وَرَبَّكُمْ إِنَّهُ مَنْ يُشْرِكْ بِاللهِ فَقَدْ حَرَّمَ اللهُ عَلَيْهِ الْجَنَّةَ
وَمَأْواهُ النَّارُ وَما لِلظَّالِمِينَ مِنْ أَنْصارٍ (٧٢)﴾
ثمّ أنّه تعالى بعد الفراغ من ذمّ اليهود ، شرع في ذمّ النّصارى وبيان غاية كفرهم وضلالهم ، فبدأ بذكر الفرقة التي هي أضلّ فرقهم بقوله : ﴿لَقَدْ كَفَرَ﴾ القوم ﴿الَّذِينَ قالُوا﴾ وأعتقدوا ﴿إِنَّ اللهَ هُوَ الْمَسِيحُ ابْنُ مَرْيَمَ﴾ وهم اليعقوبيّة القائلون بحلول الله في عيسى ، واتّحاده معه ، ﴿وَ﴾ الحال أنّه ﴿قالَ الْمَسِيحُ﴾ حين كونه فيهم ﴿يا بَنِي إِسْرائِيلَ اعْبُدُوا اللهَ﴾ ولا تشركوا به شيئا ، وخصّوه بالخضوع والطّاعة لكونه ﴿رَبِّي وَرَبَّكُمْ﴾ وخالقي وخالقكم.
__________________
(١) تفسير الرازي ١٢ : ٥٨.
(٢) تفسير روح البيان ٢ : ٤٢١.