الأحكام ، بل بعد تكميل الدّين ، فلو كان المقصود تأمينه في تبليغ مطلق الأحكام كان الأنسب نزولها في أوائل البعثة ، أو في أوائل الهجرة ، والحال أنّه صلىاللهعليهوآله كسر الأصنام ووبّخ المشركين مع غاية شوكتهم وحرصهم على عبادتها ، ولعن اليهود والنّصارى على رؤوس الأشهاد ، وحوّل القبلة من البيت المقدّس إلى الكعبة ، وقاتل المشركين واليهود ، ولم ينقل منه صلىاللهعليهوآله خوف في مورد من الموارد.
والحاصل : أنّه لم يكن للنبيّ صلىاللهعليهوآله خوف في تبليغ الأحكام وتعليم العقائد سيّما بعد تذليل اليهود ، وقتل بني قريظة ، وإجلاء بني النّضير ، وفتح قلاع خيبر وفدك ، مع أنّه ليس من شأن النبيّ صلىاللهعليهوآله الخوف من الأعداء في التّبليغ لعلمه بأنّ الله يحفظه حتّى يتمّ الحجّة.
وبعد تكميل الدّين وإتمام الحجّة على العالمين ، يكون مجال الخوف من القتل عند تبليغ آخر الأحكام ، وهو وجوب طاعة الإمام والخليفة بعده ، فاحتاج إلى التّأمين فيه من العدوّ فامنه بقوله : ﴿وَاللهُ يَعْصِمُكَ﴾ ويشهد لذلك ما رواه كثير من العامّة في شأن نزول آية ﴿سَأَلَ سائِلٌ بِعَذابٍ واقِعٍ﴾(١) .
﴿قُلْ يا أَهْلَ الْكِتابِ لَسْتُمْ عَلى شَيْءٍ حَتَّى تُقِيمُوا التَّوْراةَ وَالْإِنْجِيلَ وَما أُنْزِلَ
إِلَيْكُمْ مِنْ رَبِّكُمْ وَلَيَزِيدَنَّ كَثِيراً مِنْهُمْ ما أُنْزِلَ إِلَيْكَ مِنْ رَبِّكَ طُغْياناً وَكُفْراً فَلا
تَأْسَ عَلَى الْقَوْمِ الْكافِرِينَ (٦٨)﴾
ثمّ أنّه تعالى بعد تسفيه أهل الكتاب في ترك العمل بما أنزل الله ، وتخطئتهم في عدم الإيمان بالقرآن ، وتأمين الرّسول من ضرر الكفّار ، أمره بتغليظ القول عليهم في ترك العمل بالكتب السّماويّة بقوله : ﴿قُلْ﴾ يا محمّد ، لليهود والنّصارى تحقيرا لهم ، وتصغيرا لشأنهم : ﴿يا أَهْلَ الْكِتابِ لَسْتُمْ عَلى شَيْءٍ﴾ من الدّين ، ولا يكون في قولكم وفعلكم شيء من الحقّ والصّواب ﴿حَتَّى تُقِيمُوا التَّوْراةَ وَالْإِنْجِيلَ وَما أُنْزِلَ إِلَيْكُمْ مِنْ رَبِّكُمْ﴾ من سائر الكتب السّماويّة ، أو من القرآن العظيم ، وتؤمنوا بجميعها ، وتوفوا بعهد الله الذي فيها من وجوب الإيمان بمحمّد صلىاللهعليهوآله وبكتابه ، وتلتزموا بما فيها.
ثمّ بيّن غاية خبثهم وشدّة عداوتهم بقوله : ﴿وَلَيَزِيدَنَّ كَثِيراً مِنْهُمْ ما أُنْزِلَ إِلَيْكَ مِنْ رَبِّكَ﴾ من الآيات الدالّة على صدقك في النّبوّة ﴿طُغْياناً﴾ وعتوّا ﴿وَكُفْراً﴾ وجحودا ، فإذا كانوا بهذه المرتبة من الخباثة والعناد ﴿فَلا تَأْسَ﴾ ولا تحزن ﴿عَلى﴾ زيادة كفر ﴿الْقَوْمِ الْكافِرِينَ﴾ فإنّ ضرر ذلك
__________________
(١) المعارج : ٧٠ / ١ ، راجع : تفسير القرطبي ١٨ : ٢٧٨ ، وتفسير أبي السعود ٩ : ٢٩ ، والدر المنثور ٨ : ٢٧٧ ، والغدير ١ : ٢٣٠.