ثمّ لمّا أوجب الله تعالى قطع يد السّارق للمال وإن كان قليلا ، ووعده بالمغفرة إذا تاب ، عرّف ذاته المقدّسة بالسّلطنة التّامّة المطلقة ، بقوله : ﴿أَ لَمْ تَعْلَمْ﴾ يا محمّد ﴿أَنَّ اللهَ لَهُ مُلْكُ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ﴾ والسّلطنة التّامّة على جميع الموجودات ، إذن ﴿يُعَذِّبُ مَنْ يَشاءُ﴾ تعذيبه بحكمته ﴿وَيَغْفِرُ لِمَنْ يَشاءُ﴾ غفرانه برحمته [ سواء أ ] كان الذّنب صغيرا أو كبيرا ، لا يسئل عمّا يفعل.
ثمّ قرّر قدرته غير المتناهية بقوله : إن ﴿وَاللهُ عَلى كُلِّ شَيْءٍ﴾ من التّعذيب والمغفرة وغيرها ﴿قَدِيرٌ﴾ لا يمنعه مانع عن إنفاذ إرادته ، ولا يدفعه دافع عن إمضاء مشيئته.
﴿يا أَيُّهَا الرَّسُولُ لا يَحْزُنْكَ الَّذِينَ يُسارِعُونَ فِي الْكُفْرِ مِنَ الَّذِينَ قالُوا آمَنَّا
بِأَفْواهِهِمْ وَلَمْ تُؤْمِنْ قُلُوبُهُمْ وَمِنَ الَّذِينَ هادُوا سَمَّاعُونَ لِلْكَذِبِ سَمَّاعُونَ
لِقَوْمٍ آخَرِينَ لَمْ يَأْتُوكَ يُحَرِّفُونَ الْكَلِمَ مِنْ بَعْدِ مَواضِعِهِ يَقُولُونَ إِنْ أُوتِيتُمْ هذا
فَخُذُوهُ وَإِنْ لَمْ تُؤْتَوْهُ فَاحْذَرُوا وَمَنْ يُرِدِ اللهُ فِتْنَتَهُ فَلَنْ تَمْلِكَ لَهُ مِنَ اللهِ شَيْئاً
أُولئِكَ الَّذِينَ لَمْ يُرِدِ اللهُ أَنْ يُطَهِّرَ قُلُوبَهُمْ لَهُمْ فِي الدُّنْيا خِزْيٌ وَلَهُمْ فِي
الْآخِرَةِ عَذابٌ عَظِيمٌ (٤١)﴾
ثمّ أنّه تعالى - بعد إثبات نبوّة نبيّه صلىاللهعليهوآله بالأخبار الغيبيّة من قصّة مخالفة بني إسرائيل أمر موسى عليهالسلام بالجهاد مع العمالقة وابتلائهم بالتّيه ، وقصّة قابيل وهابيل ابني آدم ، الموافقتين لما في الكتب السّماويّة ، مع كونه صلىاللهعليهوآله اميّا ، وبالأحكام المحكمة الموافقة للعقول السّليمة ، وكان الكلّ أدلّة على صدق نبوّته ، ومع ذلك كان المنافقون واليهود مبالغين في إنكار رسالته والإخلال في أمره - سلّى قلب حبيبه بعد خطابه بالتّشريف والتّعظيم بقوله : ﴿يا أَيُّهَا الرَّسُولُ لا يَحْزُنْكَ﴾ صنيع ﴿الَّذِينَ يُسارِعُونَ فِي الْكُفْرِ﴾ ويبادرون إلى إنكار رسالتك بعد تماميّة الحجّة ووضوح صدقك ﴿مِنَ﴾ المنافقين ﴿الَّذِينَ قالُوا آمَنَّا﴾ بك ، ولكن ﴿بِأَفْواهِهِمْ﴾ وألسنتهم ، ﴿وَ﴾ الحال أنّه ﴿لَمْ تُؤْمِنْ﴾ بك ﴿قُلُوبُهُمْ﴾ وأفئدتهم ﴿وَمِنَ الَّذِينَ هادُوا﴾ واتّبعوا دين اليهودية ، هم ﴿سَمَّاعُونَ﴾ ومبالغون في القبول ﴿لِلْكَذِبِ﴾ والفرية من علمائهم وأحبارهم.
وقيل : إنّ المراد أنّهم مبالغون في سماع أخبارك وأحاديثك ليكذّبوا عليك بالزّيادة والنّقص والتّغيير(١) .
قيل : إنّهم كانوا يسمعون من الرّسول ، ثمّ يخرجون ويقولون : سمعنا منه كذا وكذا ؛ مع أنّهم لم
__________________
(١) تفسير روح البيان ٢ : ٣٩٣.