﴿لَنْ يَسْتَنْكِفَ الْمَسِيحُ أَنْ يَكُونَ عَبْداً لِلَّهِ وَلا الْمَلائِكَةُ الْمُقَرَّبُونَ وَمَنْ
يَسْتَنْكِفْ عَنْ عِبادَتِهِ وَيَسْتَكْبِرْ فَسَيَحْشُرُهُمْ إِلَيْهِ جَمِيعاً (١٧٢)﴾
ثمّ أنّه تعالى بعد إثبات عبوديّة عيسى عليهالسلام له بالحجّة القاطعة ، نبّه العالمين بأنّ عيسى عليهالسلام غير مستنكف عن عبوديّته ، وغير راض بما يقول النّصارى في حقّه من كونه ثالث ثلاثة ، أو ولدا لله ، بقوله : ﴿لَنْ يَسْتَنْكِفَ الْمَسِيحُ﴾ ولا يأبى أبدا عن ﴿أَنْ يَكُونَ عَبْداً﴾ خاضعا ﴿لِلَّهِ﴾ وإن استنكف النّصارى عنه ، بل ﴿وَلَا﴾ يستنكف ﴿الْمَلائِكَةُ الْمُقَرَّبُونَ﴾ والكروبيّون الّذين هم حول العرش ، كجبرئيل وأضرابه ، عن أن يكونوا عبيدا لله ، مع كونهم أشدّ قوّة من عيسى ، وأعظم خلقة ، وأقلّ حاجة منه ، وإن كان عيسى عليهالسلام أقرب منزلة وأعلى قدرا منهم عند الله. فظهر من التّفسير الذي ذكرنا أنّ الاستدلال بالآية على أفضليّة الملائكة من الأنبياء - كما نسب إلى المعتزلة - فاسد جدا.
روي أنّ وفد نجران قالوا لرسول الله صلىاللهعليهوآله : لم تعيب صاحبنا ؟ قال : « ومن صاحبكم ؟ » . قالوا : عيسى ، قال : « وأيّ شيء قلت ؟ » . قالوا : تقول إنّه عبد الله ورسوله ، قال : « [ إنّه ] ليس بعار أن يكون عبدا لله » . فنزلت الآية (١) .
ثمّ هدّد الله تعالى المستنكفين عن عبادته بقوله : ﴿وَمَنْ يَسْتَنْكِفْ﴾ ويتأنّف ﴿عَنْ عِبادَتِهِ﴾ وطاعته ﴿وَيَسْتَكْبِرْ﴾ ويترفّع عنها ﴿فَسَيَحْشُرُهُمْ﴾ من القبور ويسوقهم ﴿إِلَيْهِ﴾ يوم القيامة حال كونهم ﴿جَمِيعاً﴾ لا يشذّ منهم [ أحد ] .
﴿فَأَمَّا الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحاتِ فَيُوَفِّيهِمْ أُجُورَهُمْ وَيَزِيدُهُمْ مِنْ فَضْلِهِ
وَأَمَّا الَّذِينَ اسْتَنْكَفُوا وَاسْتَكْبَرُوا فَيُعَذِّبُهُمْ عَذاباً أَلِيماً وَلا يَجِدُونَ لَهُمْ مِنْ
دُونِ اللهِ وَلِيًّا وَلا نَصِيراً (١٧٣)﴾
ثمّ بشّر المقرّين بتوحيده وعبوديّته بالثّواب وزيادة التّفضّل بقوله : ﴿فَأَمَّا الَّذِينَ آمَنُوا﴾ بربوبيّة الله وعبوديّة أنفسهم ﴿وَعَمِلُوا الصَّالِحاتِ فَيُوَفِّيهِمْ﴾ ويعطيهم ﴿أُجُورَهُمْ﴾ وثواب أعمالهم من غير نقص ﴿وَيَزِيدُهُمْ﴾ أضعافها ﴿مِنْ فَضْلِهِ﴾ وسعة رحمته.
ثمّ هدّد سبحانه المستنكفين بالعذاب الشّديد بقوله : ﴿وَأَمَّا الَّذِينَ اسْتَنْكَفُوا﴾ وتأنّفوا عن عبادة الله ﴿وَاسْتَكْبَرُوا﴾ وترفّعوا عن طاعته ﴿فَيُعَذِّبُهُمْ﴾ في الآخرة بسبب استنكافهم واستكبارهم ﴿عَذاباً أَلِيماً﴾ في الغاية لا يمكن وصفه ﴿وَلا يَجِدُونَ لَهُمْ﴾ فيها أحدا ﴿مِنْ دُونِ اللهِ﴾ وممّا سواه
__________________
(١) تفسير الرازي ١١ : ١١٧.