ثمّ أنّه تعالى بعد دفع شبهات اليهود في نبوّة النبيّ صلىاللهعليهوآله وكتابه ، وإنذارهم ودعوتهم إلى الإيمان ، صرف الخطاب إلى النّصارى بقوله : ﴿يا أَهْلَ الْكِتابِ لا تَغْلُوا﴾ ولا تتجاوزوا عن حدود العقل ﴿فِي دِينِكُمْ﴾ بالإفراط في شأن عيسى عليهالسلام ، وادّعاء الوهيّته ، أو بنوّته لله ﴿وَلا تَقُولُوا عَلَى اللهِ﴾ قولا ﴿إِلَّا الْحَقَ﴾ والصّواب ، من تنزيهه عن الشّرك والصّاحبة والولد ، ولا تصفوه بالحلول في المسيح أو الاتّحاد معه المستحيلين على الواجب ، ولا باتّخاذه المسيح ولدا لعدم الحاجة له ، وعدم السّنخيّة بينه تعالى وبين الحادث مع لزوم السّنخيّة بين الوالد والولد.
ثمّ بعد نهيهم عن الغلوّ ، أرشدهم إلى القول الوسط والحقّ بقوله : ﴿إِنَّمَا الْمَسِيحُ﴾ الذي اسمه ﴿عِيسَى﴾ ونسبه أنّه ﴿ابْنُ مَرْيَمَ﴾ بنت عمران هو ﴿رَسُولُ اللهِ﴾ إليكم لتكميل نفوسكم ، وتبليغ شرائعكم ﴿وَكَلِمَتُهُ﴾ التّامّة وآيته العظمى التي ﴿أَلْقاها﴾ من عالم القدس والأمر ، وأوصلها ﴿إِلى﴾ رحم ﴿مَرْيَمَ﴾ الصّدّيقة. ولمّا كان مبدأ وجوده نفخة الرّوح الأمين ، وصفه بالرّوحانيّة ، ونسبه إلى نفسه تشريفا له بقوله : ﴿وَرُوحٌ مِنْهُ﴾ .
عن الصادق عليهالسلام أنّه سئل عنها ، فقال : « هي روح مخلوقة خلقها الله في آدم وعيسى » (١)
وعن الباقر عليهالسلام : « روحان مخلوقان اختارهما واصطفاهما : روح آدم ، وروح عيسى » (٢) .
ثمّ أنّه تعالى بعد إثبات عبودية عيسى ورسالته وتعظيمه بأنّه كلمته وروحه ، أمر النّصارى بالإيمان بتوحيد الله ورسالة المسيح كسائر الرّسل بقوله : ﴿فَآمِنُوا بِاللهِ﴾ وحده لا شريك له ﴿وَرُسُلِهِ﴾ الّذين هم مبلّغون عنه ، ومنهم عيسى عليهالسلام ﴿وَلا تَقُولُوا﴾ إنّ الله واحد بالجوهر ﴿ثَلاثَةٌ﴾ بالأقانيم ، على ما قيل (٣).
﴿انْتَهُوا﴾ أيّها النّصارى وارتدعوا عن هذا القول الباطل ، فإنّ الانتهاء عن التّثليث يكون ﴿خَيْراً لَكُمْ﴾ من القول بالتّثليث لأنّه كفر ﴿إِنَّمَا اللهُ إِلهٌ واحِدٌ﴾ بالذّات والصّفات ، منزّه عن التّعدّد والكثرة.
ثمّ نزّهه عن اتّخاذ الولد بقوله : ﴿سُبْحانَهُ أَنْ يَكُونَ لَهُ وَلَدٌ﴾ كما ادّعاه النّصارى ؛ لأنّ الولد لا يمكن أن يكون ملكا لوالده ، والحال أنّ الله ﴿لَهُ ما فِي السَّماواتِ وَما فِي الْأَرْضِ﴾ خلقا وملكا وتصرّفا ، لا يخرج من ملكوته عيسى عليهالسلام وغيره من الموجودات ، ولا يحتاج إلى ولد ومعين ، إذ بذاته وقدرته يدبّر كلّ شيء ﴿وَكَفى بِاللهِ﴾ وحده ﴿وَكِيلاً﴾ ومدبّرا لامور الكائنات ، فمن يكون له الغنى والقدرة غير المتناهيين ، يمتنع أن يتّخذ لنفسه صاحبة وولدا.
__________________
(١) الكافي ١ : ١٠٣ / ٢ ، تفسير الصافي ١ : ٤٨٤.
(٢) التوحيد : ١٧٢ / ٤ ، تفسير الصافي ١ : ٤٨٤.
(٣) تفسير الرازي ١١ : ١١٦ ، تفسير روح البيان ٢ : ٣٣٠.