ثمّ بالغ سبحانه في التّرغيب إلى التّوبة بالمبالغة في عظمة خصوص المعصية التي ارتكبوها من السّرقة ، وبهتان البريء ، بقوله : ﴿وَمَنْ يَكْسِبْ﴾ ويرتكب ﴿خَطِيئَةً﴾ قيل : هي الصّغيرة ، أو ما يكون بغير عمد (١) ، ﴿أَوْ﴾ يقترف ﴿إِثْماً﴾ كالسّرقة ، أو غيرها من الكبائر ﴿ثُمَّ يَرْمِ﴾ بما يكسب ويقذف ﴿بِهِ﴾ من يكون ﴿بَرِيئاً﴾ منه ﴿فَقَدِ احْتَمَلَ﴾ على ظهره ، بتبرئة نفسه منه ، وتحميله على غيره البريء منه ﴿بُهْتاناً﴾ قبيحا ، وتهمة عند موته عند العقلاء ﴿وَإِثْماً مُبِيناً﴾ وذنبا ظاهرا يلحقه أشدّ العقاب في الآخرة.
﴿وَلَوْ لا فَضْلُ اللهِ عَلَيْكَ وَرَحْمَتُهُ لَهَمَّتْ طائِفَةٌ مِنْهُمْ أَنْ يُضِلُّوكَ وَما يُضِلُّونَ إِلاَّ
أَنْفُسَهُمْ وَما يَضُرُّونَكَ مِنْ شَيْءٍ وَأَنْزَلَ اللهُ عَلَيْكَ الْكِتابَ وَالْحِكْمَةَ وَعَلَّمَكَ
ما لَمْ تَكُنْ تَعْلَمُ وَكانَ فَضْلُ اللهِ عَلَيْكَ عَظِيماً (١١٣)﴾
ثمّ منّ الله سبحانه على حبيبه بحفظه عن الخطأ في الحكم ، وعصمته من زلل مساعدة الخائن ، بقوله : ﴿وَلَوْ لا فَضْلُ اللهِ﴾ وإنعامه الجزيل ﴿عَلَيْكَ﴾ بإعلامك ، بتوسّط الوحي ، بسوء ضمائر المنافقين ، وسيّئات أعمالهم المخفيّة ﴿وَرَحْمَتُهُ﴾ عليك بعصمتك من الزّلل ، وحفظك من مكائد أهل الضّلال ﴿لَهَمَّتْ طائِفَةٌ﴾ وفرقة ﴿مِنْهُمْ﴾ قيل : هم بنو ظفر الذّابّون عن طعمة (٢)﴿أَنْ يُضِلُّوكَ﴾ عن الحكم بالحقّ بتلبيسهم الأمر عليك ، ﴿وَ﴾ الحال أنّهم ﴿ما يُضِلُّونَ﴾ بسبب تعاونهم على الإثم والعدوان ، وشهادتهم بالزّور والبهتان ﴿إِلَّا أَنْفُسَهُمْ﴾ عن الحقّ وطريق الجنّة ، وإنّما يضرّون أنفسهم بالابتلاء بفضيحة الدّنيا ، وعذاب الآخرة ﴿وَما يَضُرُّونَكَ مِنْ شَيْءٍ﴾ قليل أو كثير ؛ لأنّك معصوم بعصمة الله أبدا.
﴿وَ﴾ لذا ﴿أَنْزَلَ اللهُ عَلَيْكَ الْكِتابَ﴾ السّماويّ الذي هو أفضل الكتب ﴿وَالْحِكْمَةَ﴾ التي هي أفضل المواهب ، والرّسالة التي هي أعلى المناصب ، فكيف يليق بحكمته أن لا يعصمك عن الحكم بغير الحقّ ؟ ﴿وَعَلَّمَكَ﴾ مع ذلك ﴿ما لَمْ تَكُنْ تَعْلَمُ﴾ بالأسباب العاديّة من العلوم الوفيرة ، بحقائق الأشياء وخفيّات الأمور ، فكيف لا يعلّمك حيل المنافقين ومكائدهم ، وما تقدر به على الاحتراز منها ﴿وَكانَ﴾ من بدو خلقتك في عالم الأنوار والأشباح والأجسام ﴿فَضْلُ اللهِ﴾ وإنعامه ﴿عَلَيْكَ عَظِيماً﴾ لا يقادر قدره.
__________________
(١) تفسير أبي السعود ٢ : ٢٣٠.
(٢) تفسير أبي السعود ٢ : ٢٣١ ، وراجع تفسير الآيتين (١٠٥ و١٠٦) من هذه السورة.