وقيل : إنّ المراد من قوله تعالى : ( من ) زمان قريب قبل أن يشرب في قلوبهم حبّه ، فيطبع عليها ، فيتعذّر (١) عليهم الرّجوع (٢) .
ثمّ أكّد سبحانه وعده بقبول التّوبة ، بقوله : ﴿فَأُولئِكَ﴾ الواجدون لشرطي قبول التّوبة ﴿يَتُوبُ اللهُ عَلَيْهِمْ﴾ عملا بما كتب على نفسه ﴿وَكانَ اللهُ عَلِيماً﴾ بضمائر التّائبين من الإخلاص ، وحقيقة النّدم ، والعزم على عدم العود ﴿حَكِيماً﴾ في فعاله ، لا يمكن صدور عقوبة التّائبين منه ؛ لمنافاتها حكمته وكرمه.
﴿وَلَيْسَتِ التَّوْبَةُ لِلَّذِينَ يَعْمَلُونَ السَّيِّئاتِ حَتَّى إِذا حَضَرَ أَحَدَهُمُ الْمَوْتُ قالَ
إِنِّي تُبْتُ الْآنَ وَلا الَّذِينَ يَمُوتُونَ وَهُمْ كُفَّارٌ أُولئِكَ أَعْتَدْنا لَهُمْ عَذاباً
أَلِيماً (١٨)﴾
ثمّ بيّن الله سبحانه زمان عدم قبوله التّوبة فيه ، والمعصية التي لا تقبل التّوبة منها ، بقوله : ﴿وَلَيْسَتِ التَّوْبَةُ﴾ المقبولة ﴿لِلَّذِينَ يَعْمَلُونَ السَّيِّئاتِ﴾ ويشتغلون بالذّنوب ويديمون عليها ، لاهين عن ذكر الله وعن التّوبة ﴿حَتَّى إِذا حَضَرَ أَحَدَهُمُ الْمَوْتُ﴾ وشاهد علاماته ، وعاين أهواله ، وصار معرفته بالله وعلمه بدار الجزاء ضروريا ، ﴿قالَ﴾ عند رؤية بأس الله : ﴿إِنِّي تُبْتُ الْآنَ﴾ من ذنوبي ﴿وَلَا الَّذِينَ يَمُوتُونَ وَهُمْ﴾ حين موتهم ومعاينتهم الآخرة ﴿كُفَّارٌ﴾ وغير مستأهلين لقبول توبتهم وإن آمنوا بعده ، لقوله : ﴿فَلَمْ يَكُ يَنْفَعُهُمْ إِيمانُهُمْ لَمَّا رَأَوْا بَأْسَنا﴾(٣)﴿أُولئِكَ﴾ الفريقان ﴿أَعْتَدْنا﴾ وهيّأنا ﴿لَهُمْ﴾ في الآخرة ﴿عَذاباً﴾ دائما ﴿أَلِيماً﴾ موجعا في الغاية.
فسوّى سبحانه بين المؤمن الفاسق المسوّف للتّوبة إلى وقوعه في سكرة الموت ، وبين الكافرين الّذين لا يؤمنون ولا يتوبون إلى رؤية ملك الموت ، في عدم قبول التّوبة واستحقاق العذاب الأليم.
قيل : إنّ المراد من الّذين يعملون السّيّئات المنافقون ، لدلالة قوله تعالى : ﴿يا عِبادِيَ الَّذِينَ أَسْرَفُوا عَلى أَنْفُسِهِمْ لا تَقْنَطُوا مِنْ رَحْمَةِ اللهِ إِنَّ اللهَ يَغْفِرُ الذُّنُوبَ جَمِيعاً﴾(٤) ، وقوله : ﴿إِنَّ اللهَ لا يَغْفِرُ أَنْ يُشْرَكَ بِهِ وَيَغْفِرُ ما دُونَ ذلِكَ لِمَنْ يَشاءُ﴾(٥) ، ولدلالة روايات كثيرة على شمول الرّحمة والشّفاعة لعصاة المؤمنين.
أقول : يمكن أن يكون المراد منه خصوص من أخرجته سيّئات أعماله من الإيمان إلى الكفر عند
__________________
(١) في النسخة : فيعتذر.
(٢) تفسير البيضاوي ١ : ٢٠٦.
(٣) المؤمن : ٤٠ / ٨٥.
(٤) الزمر : ٣٩ / ٥٣.
(٥) النساء : ٤ / ٤٨.