والكفران لنعمه ، يكون ﴿لَهُمْ﴾ خاصّة بالاستحقاق ﴿جَنَّاتٌ﴾ عديدة ، وبساتين عالية ذوات أشجار وفيرة ﴿تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهارُ﴾ الكثيرة ، حال كونهم ﴿خالِدِينَ﴾ ومقيمين ﴿فِيها﴾ أبدا ، آمنين من الخروج منها ، وتكون تلك النّعم العظيمة ﴿نُزُلاً﴾ وتهيئة تشريفيّة ﴿مِنْ عِنْدِ اللهِ﴾ للنّازلين عليه ، والوافدين لديه.
وقيل : إنّ المراد أنّها تكون رزقا وعطاء لهم من فضله.
﴿وَما﴾ هو مذخور ﴿عِنْدِ اللهِ﴾ وفي خزائن رحمته من النّعم ﴿خَيْرٌ﴾ وأنفع ؛ لكثرتها ودوامها ، وخلوصها من شوب المكاره ﴿لِلْأَبْرارِ﴾ والمطيعين لله ، ممّا يتقلّب فيه الكفّار ، ويكتسبون من الأموال ، ويتمتّع به الفجّار ، وينتفعون من متاع الدّنيا ؛ لقلّته ، وسرعة زواله ، وشوبه بأنواع المكاره والآلام ، مع وخامة تبعاته ووباله.
عن ابن مسعود رضى الله عنه : ما من نفس برّة ولا فاجرة إلّا والموت خير لها ، أمّا البرّة فإنّ الله تعالى يقول : ﴿وَما عِنْدَ اللهِ خَيْرٌ لِلْأَبْرارِ﴾ وأمّا الفاجرة فإنّه يقول : ﴿إِنَّما نُمْلِي لَهُمْ لِيَزْدادُوا إِثْماً﴾(١) .
وعن ابن الخطاب ، قال : جئت فإذا رسول الله صلىاللهعليهوآله في مشربة (٢) ، وإنّه لعلى حصير ما بينه وبينه شيء ، وتحت رأسه وسادة من أدم حشوها ليف ، وعند رجليه قرظا مصبورا (٣) ، وعند رأسه اهب (٤) معلّقة ، فرأيت أثر الحصير في جنبه فبكيت ، فقال صلىاللهعليهوآله : « ما يبكيك ؟ » فقلت : يا رسول الله ، إنّ كسرى وقيصر فيما هما فيه ، وأنت رسول الله ! فقال : « أما ترضى أن تكون لهما الدّنيا ولناالآخرة»(٥) .
﴿وَإِنَّ مِنْ أَهْلِ الْكِتابِ لَمَنْ يُؤْمِنُ بِاللهِ وَما أُنْزِلَ إِلَيْكُمْ وَما أُنْزِلَ إِلَيْهِمْ خاشِعِينَ
لِلَّهِ لا يَشْتَرُونَ بِآياتِ اللهِ ثَمَناً قَلِيلاً أُولئِكَ لَهُمْ أَجْرُهُمْ عِنْدَ رَبِّهِمْ إِنَّ اللهَ سَرِيعُ
الْحِسابِ (١٩٩)﴾
ثمّ أنّه تعالى بعدما بين سوء حال الكفار ، الذين منهم أهل الكتابين ، بشّر بحسن حالم من آمن منهم بدين الإسلام ، بقوله : ﴿وَإِنَّ مِنْ أَهْلِ الْكِتابِ﴾ الّذين دخلوا في دين الإسلام عن صميم القلب ، كعبد الله بن سلام وأضرابه ﴿لَمَنْ يُؤْمِنُ بِاللهِ﴾ ويصّدق بوحدانيّته ﴿وَ﴾ يعترف بأنّ ﴿ما أُنْزِلَ إِلَيْكُمْ﴾ من الدّين والقرآن حقّ ، وأنّهما من الله.
__________________
(١) تفسير روح البيان ٢ : ١٥٤ ، والآية من سورة آل عمران : ٣ / ١٧٨.
(٢) المشربة : الغرفة.
(٣) القرظ : ورق السّلم يدبغ به ، ومصبور ، أي مجموع مكوّم.
(٤) الأهب : جمع إهاب ، وهو الجلد قبل الدّبغ.
(٥) تفسير روح البيان ٢ : ١٥٤.