الرّاحة ، فدفع الله ذلك الطّعن ، وسلّى قلوب المؤمنين مخاطبا للنبيّ صلىاللهعليهوآله تشريفا له ، وإيذانا بكونه المسلّي عن الله والمبلّغ ، بقوله : ﴿لا يَغُرَّنَّكَ﴾ ولا يلقينّك في اعتقاد خلاف الواقع - وقيل : إنّ الخطاب لكلّ أحد - ﴿تَقَلُّبُ الَّذِينَ كَفَرُوا فِي الْبِلادِ﴾ وتصرّفهم في المكاسب والمتاجر ، وتبسّطهم في المعيشة ، والمؤمنون في شدّة الفاقة - أو المراد : سيرهم في الأرض آمنين ، والمؤمنون في خوف - أنّ للكفّار منزلة عند الله دون المؤمنين ، فإنّ الغنى أو الأمن الذي يكون للكفّار ﴿مَتاعٌ قَلِيلٌ﴾ في الدّنيا ، وانتفاع يسير فيها ، يزول بسرعة ولو كانت مدّته طويلة ، لوضوح أنّ أمد الدّنيا - بالنّسبة إلى طول مدّة الآخرة - أقلّ من دقيقة بالإضافة إلى أضعاف عمر الدّنيا ، وأنّه لا قدر لنعمها في جنب أقلّ قليل من نعم الآخرة.
عن النبيّ صلىاللهعليهوآله ، قال : « ما الدّنيا في الآخرة إلّا مثل ما يجعل أحدكم إصبعه في اليمّ ، فلينظر ما (١) يرجع ! » (٢) .
﴿ثُمَ﴾ بعد انقضاء أجلهم يكون ﴿مَأْواهُمْ﴾ ومنزلهم إلى الأبد ﴿جَهَنَّمُ﴾ يصلونها ﴿وَبِئْسَ الْمِهادُ﴾ تلك جهنم ، وساء ما مهّدوا وهيئوا لأنفسهم من النّار بسبب كفرهم بالله ، وحبّهم للدّنيا.
قيل : إنّ مشركي مكّة كانوا يتّجرون ويتنعّمون ، وإنّ بعض المسلمين كانوا يرونهم في رخاء ولين عيش فيقولون : [ إنّ ] أعداء الله في ما نرى من الخير ، وقد هلكنا من الجوع والجهد ، فنزلت (٣) .
وقيل : إنّ اليهود كانت تضرب في الأرض فتصيب الأموال ، فنزلت (٤) ، فبيّن الله تعالى أنّ الدّنيا مع قلّتها وخساستها مورثة للعذاب الدّائم. ومن الواضح أنّ النّعمة القليلة لا تعدّ نعمة إذا كانت مستتبعة للمضرّة الشّديدة ، بل يجب على العاقل أن يتحرّز منها ، ويفرّ عنها.
﴿لكِنِ الَّذِينَ اتَّقَوْا رَبَّهُمْ لَهُمْ جَنَّاتٌ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهارُ خالِدِينَ فِيها
نُزُلاً مِنْ عِنْدِ اللهِ وَما عِنْدَ اللهِ خَيْرٌ لِلْأَبْرارِ (١٩٨)﴾
ثمّ أتبع الله سبحانه وعيد الكفّار المنهمكين في حبّ الدّنيا بوعد المؤمنين المهتمّين بامور الآخرة ، بالثّواب العظيم ، وبيّن حسن حالهم فيها ، غبّ (٥) بيان كرّر ذكره إثر ما قرّر ، مع زيادة بيان خلودهم في الجنّات العالية والنّعم الباقية ، ليتمّ بذلك سرورهم ، ويتزايد به إيضاح سوء حال مخالفيهم ، بقوله : ﴿لكِنِ﴾ المؤمنون ﴿الَّذِينَ اتَّقَوْا رَبَّهُمْ﴾ وخافوا من عصيان مليكهم ، واحترزوا عن الإشراك به
__________________
(١) في تفسير أبي السعود : بم.
(٢) تفسير أبي السعود ٢ : ١٣٥.
(٣ و٤) . تفسير الرازي ٩ : ١٥٢.
(٥) الغبّ : بمعنى بعد.