وتقديمه (١) على قوله : ﴿وَما أُنْزِلَ إِلَيْهِمْ﴾ من الكتابين ، في الذّكر - مع أنّ الأمر في الوجود بالعكس - للإشعار بأشرفيّة الإيمان بالأول من الثّاني ، وأنّ الإيمان بالكتابين متوقّف على ثبوتهما بالقرآن ، لانقطاع التّواتر عنهما ، وثبوت التّحريف فيهما ، حسب ما حقّق في محلّه ، فلو لم يكن إخبار القرآن بكونهما من عند الله لم يكن طريق إلى الإيمان بهما.
ثمّ وصفهم الله بكونهم ﴿خاشِعِينَ﴾ متواضعين ﴿لِلَّهِ﴾ خوفا من عقابه وطمعا في ثوابه ، أو تعظيما له ، وبكونهم ﴿لا يَشْتَرُونَ﴾ ولا يستدلون ﴿بِآياتِ اللهِ﴾ المنزلة في الكتابين ﴿ثَمَناً قَلِيلاً﴾ وعوضا يسيرا ، ولا يحرّفونهما ، ولا يكتمون ما فيهما من شواهد نبوّة محمّد صلىاللهعليهوآله استجلابا لحطام الدّنيا ، وحفظا لرئاستهم ، كما هو دأب من لم يسلم من أحبارهم وقسّيسيهم ﴿أُولئِكَ﴾ المتّصفون بهذه الصّفات الكريمة الفائقة ﴿لَهُمْ أَجْرُهُمْ﴾ العظيم الموعود ، وثوابهم المذخور ﴿عِنْدَ رَبِّهِمْ﴾ اللّطيف بهم ، يصل إليهم في الآخرة بلا تأخير ولا تسويف ، بسبب طول الحساب ﴿إِنَّ اللهَ سَرِيعُ الْحِسابِ﴾ لسعة علمه بجميع الأشياء ، فلا حاجة له في تعيين جزاء العاملين إلى فكر ووعي صدر ، ومدّة وتحقيق وكتب ، فيكون أجر كلّ أحد سريع الوصول إليه.
عن ابن عبّاس : أنّها نزلت في النّجاشي ، فإنّه لمّا مات نعاه جبرئيل للنبيّ صلىاللهعليهوآله فقال صلىاللهعليهوآله لأصحابه : « اخرجوا فصلّوا على أخ لكم مات بغير أرضكم » ، فخرج إلى البقيع ، ونظر إلى أرض الحبشة فأبصر سرير النّجاشي ، وصلّى عليه واستغفر له ، فقال المنافقون : انظروا إلى هذا ، يصلّي على علج (٢) نصراني لم يره قطّ ، وليس على دينه ، فنزلت (٣) .
وقيل : نزلت في أربعين رجلا من أهل نجران ، وآثنين وثلاثين رجلا من الحبشة ، وثمانية من الرّوم ، كانوا على دين عيسى عليهالسلام فأسلموا (٤) .
وقال بعض : نزلت في مؤمني أهل الكتاب كلّهم (٥) .
﴿يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اصْبِرُوا وَصابِرُوا وَرابِطُوا وَاتَّقُوا اللهَ لَعَلَّكُمْ
تُفْلِحُونَ (٢٠٠)﴾
ثمّ أنّه تعالى لمّا ذكر في السّورة المباركة كثيرا من الاصول كالتوحيد والعدل والنّبوّة والمعاد ، وكثيرا من الفروع كالحجّ والجهاد وغيرهما ، ختمها ببيان ما يوجب المحافظة عليها ، والقيام بالعمل بها ،
__________________
(١) أي تقديم قوله تعالى : (ما أُنْزِلَ إِلَيْكُمْ على) قوله تعالى : (وَما أُنْزِلَ إِلَيْهِمْ).
(٢) العلج : الكافر من العجم.
(٣ و٤) . مجمع البيان ٢ : ٩١٦.