إعادتهم أقدر. فظهر أنّ معرفة المبدأ والمعاد ، ووظائف العبوديّة ، ووجوب القيام بها نتيجة التّفكّر في الآفاق والأنفس.
ثمّ لمّا كان على المؤمن بعد معرفة الله ، وظهور عظمته في قلبه ، غاية التّخضّع ، وإظهار ذلّة العبوديّة - ومن الواضح أنّ أحبّ أنواعه عند الله الضّراعة وسؤال الحاجة ، وأنّ أهمّ الحوائج للعباد ، المؤمنين بالمعاد ، النّجاة من العذاب ، والسّلامة من العقاب - حكى الله بعد مدحهم بالتّفكّر والمعرفة والتّسبيح ، ضراعتهم ومسألتهم النّجاة من النّار بقوله : ﴿فَقِنا عَذابَ النَّارِ﴾ الذي أعددته للكافرين بك ، والجاحدين لربوبيّتك ، واحفظنا منه بالتّوفيق للاجتناب عن الزّلّات والمعاصي ، حيث إنّه لا تسلم نفس من اقتراف الذّنوب مع خذلانك ، ولا يرجى النّجاة من المهالك إلّا بحفظك ، فإنّ النّفس أمّارة بالسّوء ، والشّيطان عدوّ مبين.
قيل : في ذكر ( الفاء ) إشعار بترتّب هذا السّؤال على الذّكر والفكر ، وحصول المعرفة الكاملة ، كأنّهم قالوا : وإذ عرفنا سرّك ، وأطعنا أمرك ، ونزّهناك عمّا لا يليق بك ، فاحفظنا من عذاب النّار الذي هو جزاء من لا يعرفك.
﴿رَبَّنا إِنَّكَ مَنْ تُدْخِلِ النَّارَ فَقَدْ أَخْزَيْتَهُ وَما لِلظَّالِمِينَ مِنْ أَنْصارٍ (١٩٢)﴾
ثمّ لمّا كان الالتفات بعظم الحاجة موجبا لقوّة الدّاعي في الطلب والإلحاح ، حكى عنهم ذكر عظمة مطلوبهم بقوله : ﴿رَبَّنا إِنَّكَ مَنْ تُدْخِلِ النَّارَ فَقَدْ أَخْزَيْتَهُ﴾ غاية الخزي ، وأبعدته من مقام قربك ، وحرمته من ساحة رحمتك ، وأهنته بين خلقك ، وفضحته على رؤوس الأشهاد ، وأهلكته أبد الآباد.
وفي التّصدير بالنّداء مبالغة في التّضرّع ، وإلحاح في الدّعاء ، وفي توصيفه بالرّبوبيّة وإضافتها إلى ضمير المتكلّم استرحام واستعطاف. وفي التّأكيد ب ( إنّ ) إظهار لكمال اليقين بمضمون الجملة ، وإيذان بشدّة الخوف. وفي ذكر النّار موضع الإضمار إشعار بتهويل أمرها. وفي ذكر ( تدخل ) بدل ( تعذب ) تعيين كيفيّة التّعذيب ، وتبيين غاية فظاعته. وفي ترتيب الخزي على التّعذيب بالنّار دلالة على أنّ العذاب الرّوحاني أشدّ من الجسماني ، كما قال أمير المؤمنين عليهالسلام : « هبني صبرت على عذابك ، فكيف أصبر على فراقك ؟ » (١) .
ثمّ بالغوا في إظهار نهاية فظاعة حالهم تأكيدا لاستدعائهم ، بقوله : ﴿وَما لِلظَّالِمِينَ﴾ على أنفسهم بعصيانك ، حين دخولهم في النّار ﴿مِنْ أَنْصارٍ﴾ وأعوان كي يدفعوا عنهم العذاب.
__________________
(١) مصباح المتهجد : ٨٤٧.