وإنّما خصّ التّفكّر بالخلق ؛ لأنّ معرفة حقيقة ذاته تعالى غير ممكنة للبشر ، فلا فائدة لهم في التّفكّر في ذاته المقدّسة ، ولذا قال النبيّ صلىاللهعليهوآله : « تفكّروا في الخلق ، ولا تتفكّروا في الخالق » (١) .
قيل : لمّا كان الإنسان مركّبا من النّفس والبدن ، كانت العبوديّة بحسب النّفس والبدن ، فأشار إلى عبوديّة البدن بقوله : ﴿الَّذِينَ يَذْكُرُونَ ... ﴾ فإنّ ذلك لا يتمّ إلّا باستعمال الجوارح والأعضاء وأشار إلى عبودية القلب والرّوح بقوله : ﴿وَيَتَفَكَّرُونَ فِي خَلْقِ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ ...﴾ .
في فضيلة التفكر وفوائده
ثمّ - لمّا كان نتيجة التّفكّر في المخلوقات تنوّر القلب ، وزيادة المعرفة بسعة قدرة الله وكمال حكمته - وصفهم بعد التّفكّر في عجائب صنع السّماوات والأرض بإظهار المعرفة بقولهم : ﴿رَبَّنا﴾ اعترفنا بأنّك ﴿ما خَلَقْتَ هذا﴾ الخلق العظيم ، والمصنوع العجيب ﴿باطِلاً﴾ وعبثا ، بل فيه حكم بالغة وأسرار عظيمة لا تحيط بأقلّ قليل منها عقول الكائنات ، ولا يمكن ان يبلغ إلى عشر من أعشارها إدراك الممكنات.
ثمّ لمّا كان من لوازم التّفكّر في الخلق ، تنزيه خالقه عن التّشبيه به ، يبادرون بعد التّفكّر إلى تنزيهه تعالى من الصّفات الإمكانيّة بقولهم : ﴿سُبْحانَكَ﴾ أن يكون لك خصائص الممكنات ، ونقدّسك عن نقائض المخلوقات ، وننزّهك عمّا لا يليق بك من العبث ، وفعل ما لا حكمة فيه.
عن النبيّ صلىاللهعليهوآله ، قال : « تفكّر ساعة خير من عبادة ستّين سنة » (٢) .
وعن أمير المؤمنين عليهالسلام : « نبّه بالتّفكّر قلبك ، وجاف عن اللّيل جنبك ، واتّق الله ربّك » (٣) .
وعن الرّضا عليهالسلام : « ليس العبادة كثرة الصّلاة والصّوم ، وإنّما العبادة التّفكّر في أمر الله » (٤) .
وروي أنّه كان أكثر عبادة أبي ذرّ التّفكّر [ والاعتبار ](٥) .
ويشهد على كون التفكّر أفضل العبادات ، وضوح أنّ الغرض من الخلق المعرفة ، وهي موقوفة على التّفكّر في صنائع الله عزوجل ، فإنّ من تفكّر فيها - على ما هي عليه من النّمط البديع - قضى باتّصاف صانعها بالوجوب الذّاتي ، لامتناع انتهاء وجود الممكن إلّا إلى الواجب. ومن اتّساقها على النّظام الأتمّ ، علم بوحدانيّته الذّاتيّة ، وقدرته الكاملة ، وعلمه الواسع ، وحكمته البالغة.
ومن لوازم حكمته جعل التّكاليف ، ولازمه جعل الثّواب والعقاب ، ولازمه إيجاد عالم آخر ، وبعث المكلّفين فيه ، ليتعامل معهم على حسب استحقاقهم ، وأنّ من قدر على إنشائهم بلا مثال كان على
__________________
(١) تفسير الرازي ٩ : ١٣٧.
(٢) تفسير روح البيان ٢ : ١٤٥.
(٣) الكافي ٢ : ٤٥ / ١ ، تفسير الصافي ١ : ٣٧٧.
(٤) الكافي ٢ : ٤٥ / ٤ ، تفسير الصافي ١ : ٣٧٧.
(٥) الخصال : ٤٢ / ٣٣ ، بحار الأنوار ٢٢ : ٤٣١ / ٣٩.