قيل : إنّ من فوائد كونه صلىاللهعليهوآله من أنفسهم وجوه :
الأوّل : أنّه صلىاللهعليهوآله ولد فيهم وفي بلدهم ، ونشأ فيما بينهم ، وهم كانوا عارفين بأحواله ، مطّلعين على جميع أقواله وأفعاله ، فما شاهدوا منه من أوّل عمره إلى آخره إلّا الصّدق والعفاف ، وعدم الالتفات إلى الدّنيا ، والبعد عن الأخلاق الرّذيلة والكذب. ثمّ ادّعى النّبوّة والرّسالة ، التي يكون الكذب في مثل هذه الدّعوى من أقبح أنواع الكذب ، فمن عرفه بهذه الكمالات يغلب على ظنّه ، بل يتيقّن أنّه صادق في هذه الدّعوى.
الثاني : أنّهم كانوا عالمين بأنّه صلىاللهعليهوآله لم يتلمذ لأحد ، ولم يقرأ كتابا ، ولم يمارس درسا ولا تكرارا ، وأنّه إلى تمام الأربعين لم ينطق قطّ بحديث النّبوّة والرّسالة. ثمّ أنّه بعد الأربعين ادّعى الرّسالة ، وظهر على لسانه من العلوم ما لم يظهر على لسان أحد من العالمين ، وذكر قصص المتقدّمين وأحوال الأنبياء الماضين على الوجه الذي كان موجودا في كتبهم ، فكلّ من له عقل سليم علم أنّ هذا لا يتأتّى إلا بالوحي السّماوي ، والإلهام الإلهي.
الثالث : أنّه بعد ادّعاء النّبوّة ، عرضوا عليه الأموال الكثيرة والأزواج ليترك هذه الدّعوى ، فلم يلتفت إلى شيء من ذلك ، بل قنع بالفقر وصبر على المشقّة ، ولمّا علا أمره ، وعظم شأنه ، وأخذ البلاد ، وعظمت الغنائم ، لم يغيّر طريقه في البعد عن الدّنيا ، والدّعوة إلى الله. والكاذب إنّما يقدم على الكذب ليجد الدّنيا ، فإذا وجدها تمتّع بها ، وتوسّع فيها ، فلمّا لم يفعل شيئا من ذلك علم أنّه كان صادقا.
الرابع : أنّ الكتاب الذي جاء به ليس فيه إلّا تقرير التّوحيد ، والتّنزيه ، والعدل ، والنّبوّة ، وإثبات المعاد ، وشرح العبادات ، وتقرير الطّاعات. ومعلوم أنّ كمال الإنسان في أن يعرف الحقّ لذاته ، والخير لأجل أن يعمل به ، ولمّا كان كتابه ليس إلّا في تقرير هذين الأمرين ، علم كلّ عاقل أنّه صادق في ما يقوله.
الخامس : أنّ قبل مجيئه كان دين العرب أرذل الأديان ، وهو عبادة الاوثان ، وأخلاقهم أرذل الأخلاق ، وهي الغارة ، والنّهب ، والقتل ، وأكل الأطعمة الرّديئة. ثمّ لمّا بعث الله محمّدا صلىاللهعليهوآله نقلهم الله ببركة مقدمه (١) ، من تلك الدّرجة التي هي أخسّ الدّرجات ، إلى أن صاروا أفضل الامم في العلم والزّهد والعبادة ، وعدم الالتفات إلى الدّنيا وطيّباتها. ولا شكّ أنّ فيه أعظم النّعمة والمنّة.
إذا عرفت هذه الوجوه ، فنقول : إنّ محمّدا صلىاللهعليهوآله ولد فيهم ، ونشأ فيما بينهم ، وكانوا مشاهدين لهذه
__________________
(١) في النسخة : بلغهم الله بتركه مقدمة.