وكانوا ﴿يَقُولُونَ﴾ للنبيّ صلىاللهعليهوآله ، على صورة الاسترشاد ، وإنّ كان مقصودهم في الواقع الإنكار : ﴿هَلْ لَنا﴾ يا رسول الله ﴿مِنَ الْأَمْرِ﴾ الذي وعدتنا ، وهو النّصر والغلبة ، وقيل : إنّ المراد : هل لنا من التّدبير في الإصلاح ﴿مِنْ شَيْءٍ﴾ قليل ، وحظّ يسير قطّ ؟
ثمّ أمر الله سبحانه نبيّه أن ﴿قُلْ﴾ لهم جوابا : ﴿إِنَّ الْأَمْرَ﴾ من النّصر والظّفر والتّدبير ﴿كُلَّهُ لِلَّهِ﴾ وهو بالآخرة ينصر أولياءه ، ويخذل أعداءه ؛ كما قال : ﴿فَإِنَّ حِزْبَ اللهِ هُمُ الْغالِبُونَ﴾(١).
ثمّ أنّه تعالى بعد بيان ظاهر حالهم ومقالهم ، كشف عن سرّهم ، وما في قلوبهم بقوله : ﴿يُخْفُونَ﴾ ويضمرون ﴿فِي أَنْفُسِهِمْ﴾ وفي قلوبهم من الإنكار والتّكذيب ، وقيل : إنّ المراد يقول بعضهم لبعض خفية وسرّا ﴿ما لا يُبْدُونَ﴾ وضميرا أو كلاما لا يظهرون ﴿لَكَ﴾ خوفا ونفاقا.
ثمّ لمّا كان مقام السّؤال عمّا يخفون ، فأجاب سبحانه قبل المسألة بقوله : ﴿يَقُولُونَ﴾ بطريق حديث النّفس ، أو بألسنتهم فيما بينهم سرّا : ﴿لَوْ كانَ لَنا﴾ في هذه الحرب ﴿مِنَ الْأَمْرِ﴾ الموعود ، وهو النّصر والغلبة ، أو من التّدبير والرّأي ﴿شَيْءٍ﴾ من الحظّ والنّصيب ﴿ما قُتِلْنا﴾ بسيف الأعداء ، وما غلبنا ﴿هاهُنا﴾ .
قيل : إنّ نظرهم إلى ما رأى عبد الله بن أبيّ عند مشاورة النبيّ صلىاللهعليهوآله من الإقامة بالمدينة وعدم الخروج منها إلى العدوّ ، فأمر الله نبيّه صلىاللهعليهوآله بقوله : ﴿قُلْ﴾ ردّا عليهم : ﴿لَوْ كُنْتُمْ﴾ مقيمين مستترين ﴿فِي بُيُوتِكُمْ﴾ وفي خبايا منازلكم في المدينة ، وحتمتم على أنفسكم أن لا تخرجوا ﴿لَبَرَزَ﴾ وخرج الأشخاص ﴿الَّذِينَ كُتِبَ﴾ في اللّوح المحفوظ ، وحتم في تقدير الله وقضائه ﴿عَلَيْهِمُ الْقَتْلُ﴾ بسبب من الأسباب ، وداع من دواعي الخروج ﴿إِلى مَضاجِعِهِمْ﴾ ومصارعهم التي قدّر الله قتلهم فيها ، وقتلوا هنالك ألبتّة ، ولم ينفعهم التصميم والعزيمة على الإقامة ، فإنّ قضاء الله لا يردّ ، وحكمه لا يعقّب ، والأجل المحتوم لا يؤخّر.
روي أنّ ملك الموت حضر مجلس سليمان عليهالسلام ، فنظر إلى رجل من أهل المجلس نظرة هائلة ، فلمّا قام قال الرّجل : من هذا ؟ فقال سليمان : ملك الموت ، قال : أرسلني مع الرّيح إلى عالم آخر ، فإنّي رأيت [ منه ] مرأى هائلا ، فأمرها عليهالسلام ، فألقته في قطر سحيق من أقطار العالم ، فما لبث أن عاد ملك الموت إلى سليمان فقال : كنت امرت بقبض روح ذلك الرّجل في هذه السّاعة في أرض كذا ، فلمّا وجدته في مجلسك قلت : متى يصل هذا إليها ، وقد أرسلته بالرّيح إلى ذلك المكان ، فوجدته هناك ، فقضي أمر الله في مكانه وزمانه (٢) .
__________________
(١) المائدة : ٥ / ٥٦.
(٢) تفسير أبي السعود ٢ : ١٠٢.