ثمّ - لمّا كان في زعم المنافقين أنّ الخروج من المدينة ، وقتل من قتل ، مفسدة محضة ، لم يكن فيها جهة خير وصلاح - بيّن الله تعالى حكمه ومصالحه ، والتّقدير : أنّ الأمر بالخروج ، ووقوع ما وقع ، لتبلغوا إلى مصالح كثيرة ﴿وَلِيَبْتَلِيَ اللهُ﴾ ويمتحن بما هو كائن ﴿ما فِي صُدُورِكُمْ﴾ من الإخلاص والنّفاق ، والنّيّات السّيّئة والحسنة ﴿وَلِيُمَحِّصَ﴾ وليخلّص ما هو كائن ﴿ما فِي قُلُوبِكُمْ﴾ من العقائد الحقّة عن الشّكوك والشّبهات والوساوس ﴿وَاللهُ﴾ بذاته ﴿عَلِيمٌ﴾ أزلا ﴿بِذاتِ الصُّدُورِ﴾ وما في الضّمائر من الأسرار والخفيّات ، فلا يحتاج إلى الاختيار والامتحان ، وإنّما يبرز صورة الابتلاء ، لتمرين المؤمنين ، وإظهار حال المنافقين.
نقل أنّ ثلث عسكر الرّسول صلىاللهعليهوآله كانوا مجروحين ، وثلثهم منهزمين ، وثلثهم ثابتين مع الرّسولصلىاللهعليهوآله(١) .
وروي أنّ سعد بن عثمان ورد المدينة وأخبر أنّ النبي صلىاللهعليهوآله قتل ، ثمّ ورد بعده رجال ودخلوا على نسائهم فجعل النّساء يقلن عن رسول الله صلىاللهعليهوآله تفرّون ! وكنّ يحثين التّراب في وجوههم ويقلن : هاك المغزل واغزل به (٢) .
وروي أنّه اصيب مع رسول الله صلىاللهعليهوآله نحو من ثلاثين ، كلّهم يجيء ويجثو بين يديه ويقول : وجهي لوجهك الفداء ، ونفسي لنفسك الفداء ، وعليك السّلام غير مودّع (٣) .
وروي أنّ ثمانية بايعوا رسول الله صلىاللهعليهوآله على الموت ، ثلاثة من المهاجرين : عليّ عليهالسلام ، وطلحة ، والزّبير ، وخمسة من الأنصار : أبو دجانة ، والحارث بن الصمّة ، وخبّاب بن المنذر ، وعاصم بن ثابت ، وسهل بن حنيف ، ثمّ لم يقتل منهم أحد (٤) .
﴿إِنَّ الَّذِينَ تَوَلَّوْا مِنْكُمْ يَوْمَ الْتَقَى الْجَمْعانِ إِنَّمَا اسْتَزَلَّهُمُ الشَّيْطانُ بِبَعْضِ ما
كَسَبُوا وَلَقَدْ عَفَا اللهُ عَنْهُمْ إِنَّ اللهَ غَفُورٌ حَلِيمٌ (١٥٥)﴾
ثمّ أنّه تعالى - بعد بيان علل إيراد البليّات والمصائب على المؤمنين واستيلاء المشركين عليهم - بيّن علّة انهزام المنهزمين ، وعدم ثباتهم في الجهاد بقوله : ﴿إِنَّ الَّذِينَ تَوَلَّوْا مِنْكُمْ﴾ عن القتال ، وانهزموا عند النّزال ﴿يَوْمَ الْتَقَى الْجَمْعانِ﴾ وتصادف الفريقان من المسلمين والكفّار ، لم يكن تولّيهم وانهزامهم بعلّة خروجهم من المدينة كما توهّم المنافقون ، ولا لقوّة المشركين وكثرة شوكتهم ، بل ﴿إِنَّمَا﴾ كان بسبب أنّه ﴿اسْتَزَلَّهُمُ الشَّيْطانُ﴾ ودعاهم إلى الوقوع في الخطيئة ، وارتكاب المعصية
__________________
(١) تفسير الرازي ٩ : ٥٠.
(٢) تفسير الرازي ٩ : ٥٠.
(٣) تفسير الرازي ٩ : ٥١.
(٤) تفسير الرازي ٩ : ٥١.