والحكومة ، على وجه العموم ، ونعود الآن إلى الحكومة والورود لنشرح بوضوح ما ذكره الأنصاري في أول باب التعادل والتراجيح ، ووصفه النائيني بقوله : «لا يخلو من دقة ، بل قد التبس المراد منه على كثير من الاعلام». وفيما يلي الكشف عن هذه الدقة وهذا اللبس والخلط.
تنقسم الاصول العملية إلى نوعين : عقلية ونقلية ، ومن الأولى البراءة العقلية ، وموضوعها قبح العقاب بلا بيان. والاحتياط ، وموضوعه احتمال العقاب عند الشك في فراغ الذمة والخروج عن العهدة. والتخيير ، ومورده دوران الأمر بين محذورين (أي الحرمة والوجوب) مع عدم وجود المرجح.
فإذا جاء البيان والدليل على المجهول المشكوك يرتفع حتما موضوع البراءة العقلية للبيان الواصل إلى المكلف من الشارع ، لأن موضوع هذه البراءة عدم البيان ، وقد وجد. وأيضا يرتفع موضوع الاحتياط حيث لا يحتمل المكلف العقاب إذا هو ترك الاحتياط والتزم بالدليل. وأيضا يرتفع موضوع التخيير المشروط بعدم وجود المرجح لأحد المحذورين ، والدليل مرجح ، بل وملزم بالحكم الذي دل عليه.
وأطلق الأنصاري كلمة الورود على هذا الرفع لموضوع الأصول العقلية بواسطة الدليل الشرعي وتقديم هذا الدليل عليها ، وهذه عبارته بالحرف : «إن كان الأصل مؤداه بحكم العقل كأصل البراءة العقلية والاحتياط والتخيير العقليين فالدليل وارد عليه ورافع لموضوعه». وعليه يكون معنى الورود ارتفاع موضوع المورد وجدانا وحقيقة ، ولكن بواسطة الدليل الذي اعتبره الشارع كاشفا عن الحكم كخبر الواحد بحيث يكون وجود هذا الخبر في واقعه بمنزلة عدمه لو لا اعتبار الشارع له.
هذا فيما يعود إلى الأصول العقلية ، أما الأصول الشرعية كالاستصحاب بناء على اعتباره من باب التعبد ـ فإن الدليل الشرعي يكون حاكما عليها لا واردا ، وضابط الحكومة عند الأنصاري أن يكون الدليل الحاكم ناظرا ومفسرا للمعنى المراد من دليل المحكوم ومحددا لموضوع حكمه سعة وضيقا ، وهذه عبارته بحروفها : «وضابط الحكومة أن يكون أحد الدليلين بمدلوله اللفظي متعرضا لحال الدليل الآخر .. ومبينا لمقدار مدلوله ومسوقا لبيان حاله». وكل من جاء بعد الأنصاري