وقال النائيني : «الظاهر انه لم يسبقه إلى ذلك أحد». وكل ما قاله الأنصاري في هذا التنبيه لتحصين رأيه والذب عنه يرتكز على شيء واحد ، وهو أن الأحكام العقلية بكاملها لا بد أن تكون بديهية بذاتها لا تحتاج إلى دليل كقبح الظلم والتكليف بما لا يطاق ، أو تنتهي إلى البديهة كالدليل على وجود الباري بواسطة مبدأ العلّيّة ، والدليل على نبوة النبي بواسطة المعجزة الخارقة الثابتة بالحس أو بالتواتر.
فإذا ما حكم العقل بشيء كان المعنى أنه جازم وقاطع بحكمه بعد أن أحاط بموضوعه وكل ما يتصل به ، وأيضا معناه أن العقل لا يشك في بقاء حكمه كي يستصحبه لأنه شارع بحق ، والشارع الحق إما ان يشرع ويحكم ، وإما ان لا يشرع ويحكم ، وهو في الحالين قاطع وجازم. ويستحيل الشك في حقه بالنسبة إلى الحكم والتشريع ، وإذا استحال عليه الشك في الحكم استحال الاستصحاب لا محالة. وهذه بديهة ساطعة ناصعة يصعب علينا أن نشكك فيها ونرتاب.
ولكن النائيني رد على الأنصاري وقال فيما قال : ان العقل قد يحكم بشيء وهو شاك ومتردد في حكمه. واليك عبارته بالحرف كما سجلها الخراساني : «ودعوى ان الأحكام العقلية كلها مبينة مفصلة مما لا شاهد عليها ، إذ من المحتمل أن يكون حكم العقل بقبح الكذب الضار غير النافع من جهة أن الكذب الواجد لهذه الخصوصية هو المتيقن في قبحه ، وقيام المفسدة فيه مع انه يحتمل أن لا يكون لخصوصية الضرر أو عدم النفع دخل في مناط الحكم ، بل يكون نفس العقل شاكا في قبح الكذب غير الضار».
وهذا الكلام واضح وصريح في ان العقل المشرّع يجوز عليه ان يحكم بقبح الكذب الضار ، وهو شاك في قبحه! ومعنى هذا ان العقل قد جزم وحكم بالنتيجة وهو يشك في مقدماتها ، وانه قد شرّع أحكاما ، وهو على علم بجهله وجهالته! وأيضا معنى هذا ان العقل لا عقل ، وان الادراك لا ادراك ، وان الشارع لا شارع!.
التنبيه الرابع
الاستصحاب التقديري
لا ريب ولا خلاف في استصحاب الحكم الشرعي الفعلي الثابت بلا قيد وعلى