وبين العلم والجهل ، لقد أجزنا الاحتياط بداعي الأمر المحتمل في الشبهة الحكمية حيث لا علم ويقين بوجود الأمر ، ومنعناه هنا بداعي الاحتمال للعلم واليقين بأن الأمر بالصلاة موجود ، فإن الفرض فيما نحن فيه أن المكلف يعلم بوجوب الصلاة ومع ذلك تغلب شكه على يقينه في نية الوجوب وآثر أن يصلي مترددا في نيته على الجزم بها مع امكان هذا الجزم ، بل ووجوبه حتما.
والخلاصة أن عبادة الجاهل الغافل التارك للتقليد والسؤال صحيحة مائة بالمائة إن أصابت الواقع ، أما الجاهل الملتفت إلى وجوب الفحص والبحث ومع ذلك تركه عامدا متعمدا ، وعمل بأصل البراءة وأتى بالعبادة بداعي احتمال الأمر ، واكتفى بذلك ، اما هذا الذي جعله الانصاري محل البحث فهو غير معذور وعبادته باطلة ، ويستحق المؤاخذة والعقوبة حتى ولو تبين أن عمله على وفق الواقع ـ ما عدا النية ـ لأنه ترك الشرط الأساسي في عبادته ، وهو الجزم الممكن في النية لمكان علمه ويقينه بالأمر بالصلاة.
القراءة في الصلاة جهرا مكان الإخفات
من كل ما قدمناه يتبين معنا أن العلم والدليل المنصوب بشتى أنواعه انما هو مجرد علامة ووسيلة إلى الواقع ، وليس بغاية في نفسه ، وان من أصاب الحق والواقع صح عمله ، ولا يسوغ عقابه حتى ولو خالف الطريق الشرعي المنصوب للباحث ، أما من أخطأ الحق عن قصور لا عن تقصير ، أو أخطأ بسبب سلوكه الطريق المتعين في حقه شرعا ـ فهو معذور ومأجور أيضا ، وأما من أخطأ الحق لأنه قصّر وأهمل البحث فقد بطل عمله واستحق العقاب.
ومن هنا اشتهر بين العلماء بشهادة النائيني وغيره أنه لا عقاب على ترك الفحص والتعلّم ، بل على ترك الواقع وعدم صحة العبادة ، فمن أصاب الواقع صحّت عبادته ، ولا عقاب عليه حتى ولو ترك الفحص والسؤال عن عمد فضلا عن السهو ، إلا في مسألتين حكم الفقهاء فيهما بصحة العبادة واستحقاق العقاب معا حال الجهل تقصيرا لا قصورا : الأولى الجهر بالقراءة في الصلاة حيث يجب الإخفات ، والإخفات بها حيث يجب الجهر. المسألة الثانية إتمام الصلاة حيث يجب القصر.