ولكن على الرغم من بقاء العام على ظهوره فإن الترجيح للخاص ، والعمل به حتم ، ما في ذلك ريب. وإليك الحجة بإيجاز : من الأوليات والمسلّمات أن السبب الأساسي للأخذ بظاهر الكلام هو أن هذا الظاهر يعكس مراد المتكلم ويكشف عنه ، ومعنى هذا ان الكلام إذا لم يكن له ظهور أو كان له ظهور غير كاشف عن مراد المتكلم ـ يسقط عن الحجة والاعتبار.
والعام المخصص بمنفصل له ظهور في جميع أفراده ، كما أشرنا ، ولكن هذا الظهور لا يعكس مراد المتكلم ولا يكشف عنه ، لأن الخاص قد كشف عنه وحدده بقسم خاص من العام ، وعليه يسقط ظهور العام بالنسبة لهذا القسم لأن ما ساغ لسبب يبطل بزوال هذا السبب وارتفاعه. وبكلمة إن ظهور العام يوجب العمل به عند الشك والجهل بمراد المتكلم ، ولا وسيلة الى العلم به إلا هذا الظهور ، أما مع علمنا بالمراد فنعتمد عليه وحده ، وما عدا العلم فهو وهم وسراب. وأي عاقل يقدم الدليل الظني على القطعي ، والظاهر على الأظهر؟ وليس من شك ان ظهور الخاص أقوى من ظهور العام في الكشف عن مراد المتكلم وتحديده.
العام بعد التخصيص
ليس من شك ان العام إذا بقي على عمومه واستعمل في جميع أفراده بلا تخصيص ـ يكون هذا الاستعمال على سبيل الحقيقة ، وإذا استعمل العام في واحد من أفراد فهو على المجاز نحو : رأيت اليوم بني فلان ، وأنت تريد سيدهم أو فارسهم. وإذا خصصت العام فهو حقيقة في الداخل من أفراده والخارج منها على السواء ، لأن كلا منهما في جملة ما دل عليه العام ، والذي أخرجه الخاص إنما خرج عن العام حكما لا موضوعا ، وما بقي تحته فهو داخل فيه موضوعا وحكما ـ مثلا ـ ان امرأة لوط هي من أهله حقيقة وواقعا ، ولكن لا يشملها الوعد بالنجاة في قوله تعالى : («إِنَّا مُنَجُّوكَ وَأَهْلَكَ إِلَّا امْرَأَتَكَ) ـ ٣٣ العنكبوت».
واذا كان العام حقيقة في الباقي فهو أيضا حجة فيه لا محالة ، ومعنى هذه الحجة ان حكم العام ثابت لكل فرد منه لا يتناوله الخاص بالتخصيص ، فقول القائل : أكرم العلماء إلا فسّاقهم معناه أكرم عدول العلماء ولا تكرم الفساق منهم ، ولو قلنا بأن العام ليس حجة في الباقي لكان المعنى لا تكرم عدول العلماء ولا فساقهم ،