الأثيل من مفاخر
ومآثر ومواقف خلّدتها هذه الحضارة الثرّة ، فتلك نواديها وأسواق المعرفة فيها نقشت
على صفحات التاريخ للبادية أيّامها ورفعت لها مرّ القرون أعلامها وحقّقت لأهل
الكرامة أحلامها بعد أن تركت جاهليّتها واعتنقت إسلامها ، وتنفّست السماء لتحكي عن
أنبائها وصفّقت أجنحة جبرئيل في أرجائها وخفق الوحي على جبال بكّةوبطحائها وهبط من
بين تلك الفجاج على حرائها ليُقرىء أفصح من نطق بالضاد قرآناً من ربّ العباد يتلوه
نبيّ منذرٌ ومبشّر هاد ، (إقرأ) إنّها الكلمة
التي انهدّت من دونها الأصنام واهتدت لها أفئدة الأنام ورفعت للبرية راية الأمن
والسّلام ، وأسلمت لها يثرب والبطحاء وطأطأ لها أسود الصحراء ووجم بها الفصحاء
والبلغاء ، واندحرت بها الآثام والموبقات وسجدت لها من أعلى جدران الكعبة المعلّقات
وحملت في طيّها السبع المثاني والعاديات وحاميم والصافّات وطه والمرسلات والنجم
والذاريات وما إلى ذلك من آيات باهرات.
وانحدر النبيّ من
شاهق الجبل وفي رشحات جبينه ومضات الأمل وهويرتّل الآيات ويتلو الجمل لينذر أمّ
القرى ومن حولها من الملل ، يدعو إلى سبيل ربّه بالحكمة والموعظة الحسنة يرشدهم
إلى الهدى ويتمّ عليهم مننه ليستمعوا القول فيتّبعوا أحسنه ، فكان لهم سراجاً
وهّاجاً حيث جعل لهم من الدين شرعة ومنهاجاً فمنهم من آمن ومنهم من ازداد لجاجاً ،
فجادلهم بالتي هي أحسن نهجاً وأقام لهم فيما دعاهم إليه حججاً وأراهم طريقاً بلجا
لم يرو فيه أمتاً ولا عوجاً ، فغذا بحديثه العقول وابتنت على حججه الأصول ومضت
عليه قوافل المعقول والمنقول ، فخطّ للكرامة مشرعاً وللإباء طريقاًمهيعاً ولتراث
العلم والقلم مربعاً.
فأيّ منهج أسمى من
الرسول إنسانية حيث كان لها أساساً ، وأيّ خلق أشفى للصدور إذ كان له نبراساً ، وأيّ
سيرة كانت أكثر منه أمناً ودعة واحتراساً ، (ادْعُ إلى سَبِيْلِ
رَبِّكَ بِالْحِكْمَةِ وَالْمَوْعِظَةِ الْحَسَنَة) هي آية الرشاد ، (وَإِنَّكَ
لَعَلَى خُلُق عَظِيْم) اللطف بالعباد ، (إنّا أَرْسَلْنَاكَ
شَاهِدَاً وَمُبَشِّراً وَنَذِيْراً وَدَاعِياً إلى اللهِ بِإذْنِهِ وَسِرَاجاً
مُنِيْراً) آية أشرت بها الوهاد واستقرّت لها المهاد ، (حَرِيْصَ
عَلَيْكُمْ مَا عَنِتُّمْ بِالْمُؤْمِنِيْنَ رَؤُوفٌ رَحِيْمٌ)