لا يسمح للفقيه أن
يبرّر أيَّ حكمٍ من الأحكام بالاجتهاد ؛ لأنّ الاجتهاد بالمعنى الثاني ليس مصدراً
للحكم ، بل هو عملية استنباط الأحكام من مصادرها ، فإذا قال الفقيه : «هذا اجتهادي»
كان معناه أنّ هذا هو ما استنبطه من المصادر والأدلّة ، فمن حقّنا أن نسأله ونطلب
منه أن يدلّنا على تلك المصادر والأدلّة التي استنبط الحكم منها.
وقد مرّ هذا
المعنى الجديد لكلمة «الاجتهاد» بتطوّرٍ أيضاً ، فقد حدّده المحقّق الحلّي في نطاق
عمليات الاستنباط التي لا تستند إلى ظواهر النصوص ، فكلّ عملية استنباطٍ لا تستند
إلى ظواهر النصوص تسمّى اجتهاداً دون ما يستند إلى تلك الظواهر. ولعلّ الدافع إلى
هذا التحديد أنّ استنباط الحكم من ظاهر النصّ ليس فيه كثير جهدٍ أو عناء علمي
ليسمّى اجتهاداً.
ثمّ اتّسع نطاق
الاجتهاد بعد ذلك ، فأصبح يشمل عملية استنباط الحكم من ظاهر النصّ أيضاً ؛ لأنّ
الاصوليّين بعد هذا لاحظوا بحقٍّ أنّ عملية استنباط الحكم من ظاهر النصّ تستبطن
كثيراً من الجهد العلمي في سبيل معرفة الظهور وتحديده وإثبات حجّية الظهور العرفي.
ولم يقف توسّع الاجتهاد كمصطلحٍ عند هذا الحدّ ، بل شمل في تطوّرٍ حديثٍ عملية
الاستنباط بكلّ ألوانها ، فدخلت في الاجتهاد كلّ عمليةٍ يمارسها الفقيه لتحديد
الموقف العملي تجاه الشريعة عن طريق إقامة الدليل على الحكم الشرعي ، أو على تعيين
الموقف العملي مباشرة.
وهكذا أصبح
الاجتهاد يرادف عملية الاستنباط ، وبالتالي أصبح علم الاصول العلم الضروري
للاجتهاد ؛ لأنّه العلم بالعناصر المشتركة في عملية الاستنباط.
وهذه التطورات
التي مرّت بها كلمة «الاجتهاد» كمصطلحٍ ترتبط بتطورات نفس الفكر العلمي إلى حدٍّ
ما ، وهذا ما قد يمكن توضيحه خلال دراستنا لتأريخ علم الاصول.