تشمل صورة الأخذ بأحدهما أيضا وثانيها حكم العقل به إذ مناط حكمه بالتخيير ابتداء وقبل الأخذ بأحد المتعارضين إنما هو تحيره في مقام العمل لأجل تكافؤ الدّليلين المتعارضين وهذا المناط موجود بعد الأخذ بأحدهما أيضا إذ مجرّد الأخذ بأحدهما لا يصيّره حقّا وراجحا على الآخر فالعقل كما يحكم بالتخيير قبل الأخذ بأحدهما كذلك بعده لبقاء مناط حكمه بعده أيضا بالفرض وثالثها استصحاب حكم التخيير وقد أشار المصنف رحمهالله إلى ضعف جميع هذه الوجوه أمّا الأوّل فبمنع الإطلاق لأنّها مسوقة لبيان وظيفة المتحيّر في ابتداء الأمر فلا إطلاق فيها بالنسبة إلى حال المتحيّر بعد الالتزام بأحدهما وبعبارة أخرى أنّها واردة لبيان أصل شرعيّة التخيير للمتحيّر فلا دلالة فيها على كونه ابتدائيّا أو استمراريّا نعم الأوّل هو المتيقن منها وأمّا الثّاني فبسكوت العقل عن حكم التخيير بعد الأخذ بأحد الدّليلين لأنّ حكمه بذلك قبل الأخذ بأحدهما لأجل تحيره وعدم الدّليل على الترجيح لأحدهما وبعد الأخذ بأحدهما في واقعة لا يحكم بالتخيير في واقعة أخرى لاحتمال تعيّن ما أخذه في الواقعة الأولى في هذه الواقعة كما يدّعيه القائل بكون التخيير بدويّا فمع تأتّي هذه الاحتمال يسقط عن الحكومة الّتي كان عليها قبل الأخذ بأحدهما لانتفاء هذا الاحتمال في أوّل الأمر والسّر فيه أن الجاهل بطريق إلى مقصده إنّما يكون متحيّرا إذا كان قاصدا للتوصّل به إلى مقصوده ولا ريب أنّ مقصود المكلّف في موارد إجمال التكاليف هو التّخلّص عن تبعة استحقاق العقاب عليها وهذا كما يحصل بتحصيل نفس الواقع كذلك مع تحصيل ما رضي الشّارع به عن الواقع والعقل عند تعارض دليلين متعادلين بعد ثبوت عدم جواز طرحهما معا يكشف بعدم إمكان الجمع بينهما وعدم جواز طرحهما عن رضا المعصوم عليهالسلام بسلوك إحدى الطّريقين وأمّا بعد الأخذ بإحداهما في واقعة فلمّا كان إبراء الأمارة المأخوذة بالنسبة إلى سائر الوقائع يقينا وغيرها مشكوكا فيه فالعقل لا يعدل عن القطعي إلى المشكوك فيه وهذا إن قلنا باعتبار الأخبار من باب الطّريقية وإن قلنا باعتبارها من باب السّببيّة وتزاحم الواجبين كان الأقوى استمرار التخيير لأنّ الوجه في حكم العقل بالتخيير في أوّل الأمر إنّما هو وجود مصلحة المأمور به في العمل بكلّ منهما وعدم رجحان إحدى المصلحتين على الأخرى وهذا المناط لا يختلف بالأخذ بأحدهما وعدمه هذا ويمكن منع الفرق بين القول بالطريقيّة والسببيّة بدعوى كون مقتضى القاعدة على الأوّل أيضا استمرار التخيير وذلك لأنّ الحكم بالتخيير العقلي ابتداء وقيل الأخذ بأحد الدّليلين بناء على القول بالطريقية مبني على عدم الإغماض عمّا حقّقه المصنف رحمهالله سابقا من كون مقتضى القاعدة حينئذ هو التساقط والرّجوع إلى الأصل الموافق لأحدهما وأمّا مع الإغماض عنه بدعوى صحّة تزاحم الطّريقين وعدم خروجهما بذلك من وصف الطريقية وتسليم حكم العقل بالتخيير حينئذ مع عدم رجحان أحد الدّليلين على الآخر فلا ريب أنّ مناط هذا الحكم العقلي وهو تزاحم الطّريقين وعدم رجحان إحداهما على الأخرى باق بعد الأخذ بإحداهما أيضا إذ مجرّد الأخذ بإحداهما لا يوجب قوة في طريقية المأخوذ منهما عند العقل حتّى ترجّح بذلك على صاحبها ويسقط العقل عن الحكم بالتخيير في الوقائع المتأخرة ولعلّه إلى هذا أشار المصنف رحمهالله بالتأمّل وأمّا الثّالث فبمنع جريان الاستصحاب في الأحكام العقلية لأنّ التحيّر الّذي هو موضوع حكم العقل بالتخيير إن كان باقيا بعد الأخذ بأحد المتعارضين فالعقل يستقل بحكمه على نحو ما كان مستقلا به قبله وإن لم يكن باقيا فلا معنى لاستصحاب الحكم بالتخيير لارتفاع موضوعه مضافا إلى أن التخيير إنّما كان ثابتا للمتحيّر الّذي كان عالما بعدم تعين أحد الدّليلين عليه ولم يعلم بقاء هذا الموضوع إلى زمان الأخذ بأحدهما لاحتمال تعيّن المأخوذ عليه بعد الأخذ به وإلى هذا أشار المصنف رحمهالله بقوله لأنّ الثابت سابقا إلى آخره وإذا عرفت بطلان أدلّة القول باستمرار التخيير ثبت القول بكون التخيير بدويا لأنّه المتيقن مضافا إلى قاعدة الاشتغال فيما دار الأمر فيه بين التعيين والتخيير لما عرفت من احتمال تعين المأخوذ بعد الأخذ به فإن قلت إنا نمنع كون المقام من موارد قاعدة الاشتغال لأنّ أصالة البراءة عن التكليف الزّائد تنفي احتمال تعيّن المأخوذ لكونه تكليفا زائدا قلت مع التّسليم أنّ هذا إنّما يتم فيما دار الأمر بين التعيين والتخيير في نفس المكلّف به دون طريقه والتردّد هنا في طريقه لأنّ مرجع الشبهة إلى الشّكّ في كيفيّة امتثال المتعارضين بعد الأخذ بأحدهما وأنها على وجه التعيين أو التخيير وقد قرّر في محلّه أنّ مرجع الشبهة إذا كان إلى الشكّ في بعض شرائط كيفية الامتثال فالمتعيّن في مثله الاشتغال دون البراءة كما صرّح به المصنف رحمهالله في أواخر مسألة البراءة ولكن ربّما يدفعه ما قدمناه فيما أوردناه على الدّليل الثّاني للقول الأوّل من كون مقتضى القاعدة بعد ثبوت التخيير في الجملة هو الحكم باستمراره سواء قلنا باعتبار الأخبار من باب الطريقية أم السّببيّة وقد يستدلّ على المقام أيضا باستصحاب الحكم المختار لأنّه بعد الالتزام بمقتضى أحد الدّليلين والعمل به يتعلق به ما تضمّنه من التّكليف والأصل بقاؤه في الوقائع الأخر أيضا وفيه ما عرفت من عدم الإجمال في حكم العقل أصلا مضافا إلى حكومة استصحاب التخيير عليه لأنّ الشكّ في بقاء الحكم المختار مسبّب عن الشكّ في بقاء التخيير وبلزوم الهرج والمرج المنافي لنظم العالم إذ على القول باستمرار التخيير يكون الحكم تابعا لاختيار المكلّف لأنّه إنّما يختار في كلّ واقعة ما يوافق غرضه في تلك الواقعة وفيه منع لزوم الهرج لندرة مورد تعارض فيه دليلان متكافئان بحيث لا يترجح أحدهما على الآخر من وجه أصلا وما يوجد من ذلك فاللاّزم منه ليس بأكثر ممّا يلزم من إيكال الشّارع أمر الزّوجة إلى زوجها فيتزوّج بها مرّة ويفارقها أخرى أو نحو ذلك ممّا يشابهه وتحقيق المقام بعد ما عرفت من ضعف أدلّة القولين أنا إن قلنا باعتبار الأخبار من باب السّببيّة فلا مناص من القول باستمرار التخيير على ما عرفت وإن قلنا باعتبارها من باب الطريقية فمقتضى القاعدة وإن كان هو التّساقط والرّجوع إلى الأصل الموافق لأحدهما إلاّ أنّ الأخبار قد دلّت على ثبوت التخيير في مرحلة الظاهر وقد عرفت قصور هذه الأخبار من إفادة استمرار التخيير فالمتجه على هذا القول هو كون التخيير بدويّا لا استمراريا (تنبيه) أنّه على المختار من كون التخيير بدويا وأنّه بعد الأخذ بأحدهما يتعيّن عليه المأخوذ فهل الملزم هو مجرّد الأخذ والالتزام بمؤدّى أحد المتعارضين ولو قبل وقت العمل به بأن يأخذ به ليعمل به في وقته أو الالتزام