المصنف رحمهالله إلى كلّ منها فنقول أمّا الأوّل فهو أن يكون أحد الدّليلين رافعا لموضوع الدّليل الآخر في بعض الموارد على سبيل الحقيقة كجميع الأدلّة القطعيّة بالنسبة إلى الأصول بل وسائر الأدلّة الظنّية أيضا بالنّسبة إلى الأصول العقليّة فمع الشكّ في حلية العصير مثلا فأصالة البراءة وإن اقتضت حليته في الظّاهر إلاّ أنّه إذا انعقد الإجماع على حرمته يرتفع موضوع الإباحة الظّاهريّة به حقيقة لأنّ موضوعها العصير بوصف كونه مشكوك الحكم والفرض زوال الشكّ بسببه وكذا المائع المردد بين كونه خمرا أو خلا وحصل القطع بكونه أحدهما بشهادة جماعة مثلا وهكذا وكذا الأدلّة الاجتهاديّة بالنسبة إلى الأصول العقلية كأصالة البراءة الاحتياط والتخيير لأنّ موضوع الأولى عدم البيان والثانية احتمال العقاب والثّالثة عدم التّرجيح لأحد الطرفين وهذه كلّها ترتفع بالأدلّة الاجتهاديّة لصلاحيتها للبيان وكونها دليلا قطعيّا على عدم العقاب لفرض كونها مقطوعة الاعتبار ومرجحة لأحد الطّرفين وأما الثاني فهو أن يكون أحد الدّليلين رافعا لحكم الدّليل الآخر عن بعض أفراد موضوعه بلسان التفسير والبيان بمنزلة التفسير بلفظ المعنى ونحوه فالحكومة أن يكون أحد الدّليلين متعرّضا لحال الآخر ومبينا للمراد منه ومقدار مدلوله برفع حكمه عن بعض أفراد موضوعه مع صدق موضوعه عليه حقيقة والمراد بالتفسير والبيان أن لا يفهم التّنافي بينهما من أوّل النّظر كالقرائن المتّصلة فيكون مجموع المحكوم والحاكم بمنزلة كلام واحد مشتمل على قرينة ارتكاب التجوّز في بعض فقراته نظير الأدلّة الاجتهادية بالنّسبة إلى الأصول العمليّة الشّرعيّة لأنّ خبر الواحد مثلا وإن لم يرفع الشكّ حقيقة عن موضوع الاستصحاب مثلا إلاّ أنّه من حيث تنزيل مدلوله منزلة الواقع الأولي في إلغاء احتمال خلافه مبيّن بلسان التفسير لرفع حكم الأصول الجارية في مورده وكذا عمومات العسر والضّرر بالنسبة إلى سائر العمومات المثبتة للتكليف لأنّها مخصّصة لها بغير موارد العسر والضّرر بلسان التفسير والأمر بالمسارعة إلى الخيرات المقتضي لفوريّة التكاليف بالنّسبة إلى الإطلاقات إلى غير ذلك ممّا أشار إليه المصنف رحمهالله وكذلك الأصول الحاكمة بعضها على بعض سواء اتحد سنخها كالاستصحاب المزيل والمزال أم اختلف كالاستصحاب بالنسبة إلى البراءة كاستصحاب الحياة بالنسبة إلى أصالة البراءة عن وجوب فطرة عبده وهكذا وأمّا الثالث فإنّ تخصيص العام من باب تقديم ظهور الخاص على ظهور العام لقوته بالنسبة إليه بخلاف الحكومة لأنّ تقديم الحاكم على المحكوم كما عرفت لأجل عدم المعارضة بينهما عرفا وكون الحاكم مفسّرا للمراد من المحكوم لا من باب الترجيح لقوّة الدّلالة وبالجملة أنّ التخصيص من باب دوران الأمر بين رفع اليد عن أحد الظهورين وترجيح أحدهما لقوته فالعام له ظهور في الشّمول لمورد التعارض إلاّ أنّه قد رفعت اليد عن ظهوره لقوّة ظهور معارضه بخلاف الحكومة إذ لا ظهور للمحكوم مع ملاحظة الحاكم في الشّمول لمورد اجتماعهما لما عرفت من كونه مفسّرا للمراد منه ومبيّنا لمقدار دلالته ولذا يقدم على المحكوم وإن كان له أدنى مرتبة من الظهور وأوّل درجة من الرّجحان بخلاف التّخصيص إذ لا بدّ للخاص من ظهور زائد على ظهور العام ليترجح به عليه نعم تخصيص العام بالخاص إنّما هو فيما كان الخاص ظني الدّلالة وإلاّ فإن كان قطعيّا مطلقا أو بحسب الدّلالة فهو وارد عليه على الأوّل وحاكم عليه على الثّاني وسنشير إلى توضيحه وقد اختلط الأمر على بعض الأجلة كالمحقّق القمي رحمهالله وصاحب الإشارات ففرضا التعارض بين الأمر بالمسارعة إلى الخيرات وسائر الأوامر المثبتة للتكاليف وقد عرفت فساده وزعم صاحب الرّياض كون تقديم الأدلّة اللّفظية على الأصول من باب التخصيص وقد عرفت الحال فيه بل ليس في كلمات العلماء من الحكومة والورود عين ولا أثر بمعنى عدم تعبيرهم بهما في كلماتهم وإن كانوا قد قدموا الأدلّة اللفظيّة على الأصول وكذا بعض الأدلّة اللّفظيّة على بعض ممّا كان بينهما ورود أو حكومة كتقديم أدلّة العسر والضّرر ونحوها على الأدلّة المثبتة للتكاليف إلاّ أنّهم لم يبيّنوا وجه التقديم وأنّه من باب التخصيص أو الورود أو الحكومة وقد عرفت حقيقة الحال في الجميع وبقي هنا شيء يتعلّق بعبارة المصنف رحمهالله وهو أن ما ذكره في ضابط الحكومة بعد قوله ومتفرعا عليه بقوله وميزان ذلك أن يكون بحيث لو فرض عدم ورود ذلك الدّليل لكان هذا الدّليل لغوا خاليا عن المورد بظاهره ظاهر الفساد لمنع الملازمة في كثير من موارد الحكومة مثل أنّ الخاصّ ظني الدّلالة حاكم على العام كما سيأتي ولا ريب أنّه مع عدم العام لا يكون الخاص بلا مورد مثل قولنا أكرم العلماء ولا تكرم زيدا العالم ومثل أكثر الأدلّة الاجتهاديّة بالنسبة إلى الأصول الشّرعيّة نعم ما ذكره من الأمثلة من قبيل ما ذكره مع تأمّل فيها أيضا إذ لو لا الأدلة المتكفلة لأحكام الشكوك لم تكن القاعدة الّتي أشار إليها لغوا محضا لموافقتها للأصالة البراءة فتكون مؤكّدة لحكم العقل نعم الغرض من الدّليل الحاكم بيان حال المحكوم ومقدار دلالته كما أشرنا إليه فلو لا الدّليل المحكوم كان الحاكم لغوا بلا مورد بمعنى خلوه من محلّ يتعلّق به الغرض المذكور لا كونه لغوا محضا لا ترتب عليه فائدة أصلا ولعلّه لأجل ما قدّمناه كانت العبارة المزبورة مضروبا عليها في بعض النّسخ المصحّحة ولكن كان الأولى حينئذ أن يضرب على قوله أيضا لم يكن مورد للأدلّة النافية لحكم الشكّ في هذه الصّور ثمّ إنّ الحكومة قد تكون بالتخصيص بأن كان أحد الدّليلين رافعا للحكم الثّابت بالدّليل الآخر عن بعض أفراد موضوعه وقد يكون بالتّعميم في موضوع الدّليل الآخر كما أشار إليه المصنف رحمهالله في غير موضع من كلماته وتظهر الحال في الأوّل ممّا تقدّم وأمّا الثّاني فمثاله في الأحكام استصحاب الطّهارة بعد خروج المذي المثبت لعدم ناقضيته فإنّه حاكم على ما دلّ على اشتراط الطّهارة في الصّلاة أو غيرها ممّا هو مشروط بها فإنّه معمّم لموضوع الدّليل المذكور بحيث يشمل من خرج منه المذي بعد الطهارة وإن كان هو مشكوك الطّهارة في الواقع وكذلك استصحاب نجاسة ماء زال تغيّره من قبل نفسه فإنّه حاكم على الأدلّة المثبتة لأحكام النجاسة ومعمّم لموضوعها لما يشمل مثل هذا الماء المشكوك النّجاسة ومثاله في الموضوعات استصحاب الطهارة أو النجاسة أو الحدث بالنّسبة إلى ما دلّ على اعتبار هذه الأمور وجودا أو عدما في الصّلاة وكذا ما لو ورد الأمر بإكرام العلماء وقامت البيّنة على كون رجل عالما وهكذا وما ذكره المصنف رحمهالله في ضابطة الحكومة إنّما ينطبق على ما لو كانت الحكومة فيه على وجه التخصيص فلا يشمل ما لو كانت فيه على وجه التّعميم وهو واضح (قوله) إنّما اقتضى حلية مجهول الحكم إلخ قال في الحاشية هذا حال الأصل بعد اطلاع المجتهد على الدّليل وأمّا نفس الدّليل الدّال على حكم الشيء مع قطع النّظر عن اطلاع المجتهد عليه فموضوعه ذات الفعل مع قطع النظر عن كونه معلوم الحكم أو مجهوله