فيه فنحن لا نتعقلها سوى ما ذكرناه من إنشاء الوجوب عند تحققه وثانيهما أن المراد بجعل أحكام الوضع اختراع الشّارع وإنشاؤه لها بحيث لو لا هذا الجعل والإنشاء لم يكن لها وجود في الخارج ولا عند العقل إلاّ بالاعتبار والانتزاع من شيء إذ ما لا وجود له في الواقع لا وجود له عند العقل أيضا إلاّ بالاعتبار والانتزاع وهذا المعنى غير معقول في أحكام الوضع لأنّ الشّارع إذا علق وجوب الصّلاة على تحقق الدلوك مثلا من دون إنشاء السببيّة له فنحن نتعقل ترتب وجوب الصّلاة على تحقق الدلوك الّذي هو معنى السببيّة الّتي يدعي الخصم كونها مجعولة بإنشاء مغاير لإنشاء الوجوب عند تحقّقه وكذا إذا نهى عن الصّلاة في حال الحيض بقوله دعي الصّلاة أيّام أقرائك أو في مكان مغصوب بقوله لا تصل في الدّار المغصوبة من دون إنشاء المانعيّة ولو لأجل الغفلة عنه كما في الخطابات العرفية فنحن نتعقل عدم تحقق الصّلاة في حال الحيض أو في المكان المغصوب الّذي هو معنى المانعيّة الّتي تخيل الخصم كونها مجعولة وهكذا فمع فرض وجود صفة السّببيّة والمانعية من دون إنشاء الشّارع لا يعقل كونهما من المجعولات الشّرعيّة ومن هنا يظهر أنّه لو صرّح الشّارع بأن شيئا سبب لكذا أو مانع منه أو شرط له وجب صرفه إلى إرادة تقيد موضوع الطّلب بوجود الشيء المذكور أو عدمه لما عرفت من عدم معقولية الجعل والإنشاء فيه ويؤيد ما ذكرناه من كون أحكام الوضع منتزعة من الأحكام التّكليفية عدم انفكاكها عنها أصلا وعدم تعقلها بدونها وفذلكة المقام أنّ الأحكام الوضعيّة موضوعات للأحكام الطّلبية كما ستعرفه وهي إمّا أمور لها واقعيّة إمّا في الواقع وقد كشف عنها الشّارع أو بحسب نظر أهل العرف وإمّا أمور اعتباريّة منتزعة من الأحكام الطّلبيّة وعلى التقديرين لا دخل لجعل الشارع فيها والأوّل مثل الطّهارة والنجاسة بناء على ما ادعاه بعض مشايخنا من كونهما من قبيل الأوصاف الواقعية للأعيان الخارجة قد كشف عنهما بيان الشّارع وإن كنّا قبل بيانه غير مطلعين عليهما نعم قد حكي عن الشّهيد تفسير النجاسة بوجوب الهجر عن أمور مخصوصة في الصّلاة والأكل والشرب وعلى هذا التفسير تكونان من الأمور الانتزاعيّة الاعتباريّة فتكونان حينئذ مثل الملك والرقية والحرّية والإسلام والإيمان والضمان ونحوها ممّا له وجود في نظر أهل العرف حتّى في سائر الملل لأنّ لهذه الأمور وجودات عرفية قد جعلها الشّارع موضوعات لأحكام خاصّة لا دخل لجعل الشّارع فيها لأن أهل العرف إنما يزعمون الملكية مثلا شيئا متأصّلا قد رتب عليها جواز التّصرف وكذا يزعمون الرقية والحرّية أمرين موجودين قد رتب الشّارع عليهما حكما خاصّا وهكذا ولذا حكي عن صاحب الرّياض في كتاب المضاربة الحكم بكون الدين مملوكا مع أنّ الملك عرض يقتضي محلا يقوم به والذّمة ليست محلاّ له وبالجملة إنّ هذه الأمور متأصّلة في نظر أهل العرف وإن كانت راجعة إلى الأحكام الطّلبيّة عند التحقيق غير متأصّلة في الواقع والثّاني مثل السّببيّة والشّرطية والمانعيّة والصّحة والبطلان والكليّة والجزئيّة ونحوها لأنّها أمور اعتباريّة محضة ينتزعها العقل من الأحكام الطّلبيّة على اختلافها فإذا تعلّق الطّلب بموضوع مقيّد ينتزع منه تارة الشرطيّة وأخرى السّببيّة وثالثة المانعية على اختلاف الموارد ومرجع الجميع إلى الأمر بموضوع مقيد من دون تعلّق إنشاء من الشّارع به مغاير لإنشاء الطّلب وكذا إذا تعلق الأمر بالمركّب فتارة ينتزع منه الكليّة وأخرى الجزئية وكذلك الصّحة والفساد من موافقة الأمر وعدمها في العبادات ومن ترتب الآثار الشّرعيّة من جواز التّصرف ونحوه على صدور الألفاظ المخصوصة مثلا وعدمه في المعاملات ولما كان انتزاع هذه الأمور من الأحكام الطّلبيّة مختلفا في الوضوح والخفاء فاختلفوا في الصّحة والفساد على أقوال فقيل بكونهما اعتباريّين مطلقا كالحاجبي والعضدي وجمال العلماء مع قولهم بالجعل في غيرهما وفصل بعضهم فيهما بين العبادات والمعاملات بدعوى كونهما من الأمور الاعتبارية في الأولى نظرا إلى كون الصّحة والفساد فيها بمعنى موافقة الأمر وعدمها وهما من الأمور العقلية المحضة ومن الأمور المجعولة في المعاملات لكونهما فيها بمعنى ترتب الأثر وعدمه وهما شرعيان كما يظهر من صاحب الفصول وأنت خبير بأنّ الأثر وهو جواز الاستمتاع بعد عقد النكاح مثلا وإن كان شرعيا إلا أنّ ترتبه عليه عقلي يحكم به العقل بعد الاطلاع على جعل هذا الأثر عند تحقق موضوعه وهذا إذا كان الأثر حكما طلبيّا وإن كان وضعيّا كالأمثلة الّتي ذكرها المصنف رحمهالله فالأمر فيه واضح ممّا ذكره هذا كلّه في الأحكام الوضعيّة الواقعية وأمّا الظّاهريّة فالقول بالجعل فيها أوهن منه في الواقعية وذلك بأن يقال بأن العقد الفاسد سبب ظاهريّ لإفادة الملك وإباحة التّصرف عند اعتقاد صحّته ومن هنا يقال إنّ الملك لا يزول بتغير الاجتهاد لأنّ العقد سبب شرعيّ إذا وقع لا يزول أثره إلاّ بناقل شرعيّ وتبدّل رأي المجتهد ليس منه وأنت خبير بأن دعوى الجعل في الوضعية الواقعية خالية من الدّليل بل قد عرفت الأدلّة على خلافها فضلا عن الظاهريّة منها فإن قلت كيف تنكر كون أحكام الوضع مجعولة وتدعي رجوعها إلى الأحكام الطّلبية مع اختلافهما مفهوما وشرطا ومحلاّ ودليلا لأن حرمة شرب الخمر مباينة لمانعيتها من الصّلاة وكذا وجوب الطهارة ينفك عن شرطيّتها للصّلاة لأن شرطيّتها تجتمع مع الوجوب والنّدب والتكليف بما لا يطاق يجري في التكليفي دون الوضعي واختلاف اللّوازم يدلّ على اختلاف الملزومات كيف لا والتكليفيّة مشروطة بالعلم والقدرة والعقل والبلوغ بخلاف الوضعيّة ولذا يثبت الضمان في حال الصّغر والجنون والنوم بخلاف وجوب الأداء وكذا الجنابة تثبت في هذه الأحوال دون وجوب الغسل قلت إن غاية ما ذكرت اختلاف الحكم الوضعي والتكليفي مفهوما وموضوعا وشرطا وعدم صحّة رجوعه إلى التكليف الفعلي المنجز وهذا كلّه إنّما يسلّم على تقدير تسليم كونه مجعولا ولا ينافي كونه أمرا منتزعا من الحكم التكليفي كما أوضحه المصنف رحمهالله عند بيان مراد القائل بالانتزاع والتنبيه على غفلة من غفل عن مراده وتزيد هنا توضيحا ونقول إن الأحكام التكليفيّة على أقسام منها ما يتعلق بالمكلّف ابتداء مثل الأمر بالصّلاة والصّوم ومنها ما يتعلّق به على تقدير وقوع أمر وعلى الثّاني إمّا أن يتعلّق بنفس الفاعل أو بالغير ومن قال بانتزاع الأحكام الوضعيّة من التّكليفيّة لا يريد به انتزاعها من التكليفيّة الفعلية المنجزة بل أعمّ منها ومن المعلّقة فإذا أتلف شخص مال الغير توجه إليه التكليف فعلا بأداء عوض التالف إن استجمع شرائط التكليف وإلا فعلى تقدير استجماعه لها فإذا أتلفه في حال النّوم يكون التكليف بالأداء معلّقا على الانتباه من النّوم وإذا أتلفه في حال الجنون أو الصّغر يتوجّه التكليف بالأداء إلى