الخذلان فضلا عن فعليته ليس مرتبا على مجرّد المخالفة فمن هنا يظهر أنّ جعل الإضلال في الآية الشّريفة مغيّا ببيان ما يتقون مما يرضيه ويسخطه من الواجبات والمحرمات قرينة لعدم إرادة الخذلان من الإضلال لأنّ الخذلان وإن توقف على بيان ما يتقون إلاّ أنّه متوقف على أشياء أخر أيضا فجعل الإضلال مغيّا بما يجب بيانه على الله تعالى دليل على عدم إرادته من الإضلال بل المناسب له كون المراد به التّعذيب والمعنى حينئذ ما كان الله ليعذب قوما بعد أن هداهم إلى الإسلام حتّى يبيّن لهم ما يرضيه ويسخطه ودلالتها على المدعى حينئذ واضحة كما تقدّم ومن التّأمّل فيما ذكرناه يظهر ضعف التمسّك بالفحوى أيضا لما عرفت من كون الخذلان أشد من التّعذيب في الدّنيا والآخرة(قوله) ومنها قوله تعالى (لِيَهْلِكَ) إلخ الآية في سورة الأنفال والمعنى ليهلك من ضل بعد قيام الحجّة عليه فتكون حياة الكافر وبقاؤه هلاكا له ويحيا من اهتدى بعد قيام الحجّة عليه فيكون بقاء من بقي على الإيمان حياة له وقوله عن بينة أي بعد بيان وإعلام وقضية تخصيص الضلال والاهتداء بما بعد البيان هو عدم الوجوب والحرمة قبله ولعلّ وجه تأمل المصنف رحمهالله في دلالتها هو كون المراد بالبيّنة هي المعجزات الباهرة للنّبي صلىاللهعليهوآله والمقصود من الآية بيان علة ما وقع منه تعالى من نضرة المسلمين لأنّ الآية قد نزلت في بيان قصّة غزوة بدر ونصرة المسلمين فيها كما يشهد به ما قبلها قال سبحانه (إِذْ أَنْتُمْ بِالْعُدْوَةِ الدُّنْيا وَهُمْ بِالْعُدْوَةِ الْقُصْوى وَالرَّكْبُ أَسْفَلَ مِنْكُمْ وَلَوْ تَواعَدْتُمْ لَاخْتَلَفْتُمْ فِي الْمِيعادِ وَلكِنْ لِيَقْضِيَ اللهُ أَمْراً كانَ مَفْعُولاً لِيَهْلِكَ مَنْ هَلَكَ) الآية قد أخبر الله عزوجل نبيّه صلىاللهعليهوآله بأنكم مع قلّة عددكم قد كنتم بشفير الوادي الأقرب إلى المدينة والمشركون بالشفير الأقصى منها في حال كون الرّكب يعني أبا سفيان وأصحابه في موضع أسفل منكم إلى ساحل البحر يعني مع قلة عددكم وبعدكم عن الماء والمشركون مع تقارب الفئتين منهم ومع كثرتهم ونزولهم على الماء قد نصر المسلمين عليهم ثمّ أخبر عن قلّة عدد المسلمين بأنّهم كانوا بحيث لو تواعدوا على الاجتماع في الموضع الّذي اجتمعوا فيه ثمّ بلغهم كثرة المشركين مع قلة عددهم لتأخروا ونقضوا الميعاد ثمّ أخبر بأنّه تعالى قادر على الجمع بينهم وبين المشركين ليقضي ما لا بد من كونه من إعزاز الدّين وأهله وإذلال الشرّ وأهله ليموت من مات عن بينة يعني بعد إلزام الحجّة عليه بما رآه في هذه الغزوة ممّا يدلّ على صدق النّبي صلىاللهعليهوآله وهو نصرة المسلمين مع قلّة عددهم وكثرة المشركين ونزولهم على الماء دونهم ويعيش من عاش منهم بعد قيام الحجّة عليه وبالجملة أنّ المراد بقوله تعالى (لِيَهْلِكَ) الآية بيان للغرض من نصرة المسلمين في هذه الغزوة من إلزام الحجّة على من مات أو بقي من المشركين ولا دلالة فيها على عدم التكليف بلا بيان لكونه بيانا لإلزام الحجّة على الكفّار في واقعة خاصّة اللهمّ إلاّ أن يقال إنّ المستفاد من الآية لزوم إذاعة الحجّة في كلّ ما أراده الله تعالى من العباد سواء كان هو الإسلام أو الأحكام الفرعيّة فتأمّل (قوله) ومنها قوله تعالى مخاطبا لنبيّه إلخ الآية في سورة الأنعام وتقريب الدّلالة أنّ الله تعالى قد خاطب نبيّه ملقنا إيّاه كيفية الردّ على اليهود حيث حرّموا ما أحل الله لهم افتراء عليه تعالى بأن يقول إنّي لا أجد في جملة ما أوحى الله تعالى إليّ محرّما سوى هذه المحرّمات فلقّنه طريق الردّ على اليهود بعدم وجدانه ما حرّموه في جملة ما أوحى إليه فدلّت على كون عدم الوجدان دليلا على عدم الوجود إذ لو لم يكن كذلك لم يكن وجه لتلقينه تعالى له ذلك في مقام الرّدّ على اليهود وحينئذ يتم القول بالبراءة في الشبهات التحريميّة بل مطلقا بعد عدم وجدان الدّليل في الواقعة على التّكليف (قوله) إشارة إلى المطلب إلخ يمكن منع الإشارة والإشعار أيضا لاحتمال كون النّكتة في التّعبير بعدم الوجدان هي الإشارة إلى قلّة المحرمات لأنّه مع اختلاط القليل بالكثير واشتباهه فيه بنسب الوجدان وعدمه إلى القليل فيقال إذا تتبعت الأشياء الفلانية فوجدت الشيء الفلاني من بينها أو لم تجد من بينها ففي التعبير به إشارة إلى قلّة المحرّمات وكثرة المباحات بحيث توجد هي من بينها(قوله) فغاية مدلولها إلخ بل يمكن أن يقال إنّ غاية مدلولها كون عدم وجدان النّبي صلىاللهعليهوآله دليلا على عدم الوجود في الواقع إذ لا ريب في كون عدم وجدانه حرمة شيء كاشفا عن إباحته في الواقع والمقصود في المقام إثبات الإباحة الظاهرية بعدم وجدان الدّليل على الحرمة كيف والمأخوذ في موضوع الأصول هو الجهل بالحكم الواقعي فكيف تجعل الآية دليلا على إثبات الإباحة الظّاهريّة والفرق بينه وبين ما ذكره المصنف رحمهالله واضح فلا تغفل (قوله) ومنها قوله تعالى (وَما لَكُمْ أَلَّا تَأْكُلُوا) إلخ الآية في سورة الأنعام وتقريب الدّلالة أنّ الله تعالى قد ذم على الالتزام بترك ما لم يوجد فيما فصّل من المحرّمات فتدل على إباحة كذلك ما لم يوجد تحريمه في الكتاب والسّنّة(قوله) على أنّه لا يجوز إلخ عدم الحكم بالحرمة لا ينافي وجوب الاحتياط لأنّه عبارة عن الالتزام بالتّرك في الشّبهة التّحريميّة لا الحكم بالحرمة(قوله) الاحتياط أيضا إلخ أي كما تدل على عدم جواز الحكم بالحرمة(قوله) مع تفصيل جميع إلخ ظاهره أنّ ما نحن فيه يفارق مورد الآية من وجهين أحدهما أن موردها عدم كون المتروك في جميع المحرّمات الواقعيّة والمقصود فيما نحن فيه عدم كونه فيما بأيدينا من الأدلّة بعد العلم باختفاء كثير منها عنّا وثانيهما أنّ عدم وجدان المتروك في المحرّمات الواقعيّة دليل على إباحته في الواقع والمقصود فيما نحن فيه إثبات الإباحة الظّاهرية لمجهول الحكم بحسب الواقع وربّما يتمسّك في المقام أيضا بقوله تعالى (إِنَّا هَدَيْناهُ السَّبِيلَ إِمَّا شاكِراً وَإِمَّا كَفُوراً) وقوله سبحانه (وَأَمَّا ثَمُودُ فَهَدَيْناهُمْ فَاسْتَحَبُّوا الْعَمى عَلَى الْهُدى) وقوله جلّ ذكره (خَلَقَ لَكُمْ ما فِي الْأَرْضِ جَمِيعاً) وتقريب الدّلالة في الأوليين منها أنّه تعالى رتّب الشّكر والكفران فيها على الهداية فلا شكر ولا كفران إلاّ بعد الهداية وفيه أنّ المعنى في الأولى أنّا فعلنا ذلك يعني الهداية سواء كانوا بعد ذلك شاكرين أم كافرين وفي الثانية أنّا هدينا ثمود وهم اختاروا العمى يعني الغواية والضلال على الهدى ولا دلالة فيها على وجوب الهداية قبل الضّلال لكونهما إخبارا عن وقوع ذلك فيما سلف لا بيانا لوجوب الهداية قبل الضّلال وأمّا الثالثة فوجه الدّلالة فيها أنّ اللاّم يقتضي الاختصاص بجهة الانتفاع فهي تدلّ على إباحة جميع ما يمكن الانتفاع به بنحو من أنحاء الانتفاع وفيه أنّها أخصّ من المدّعى لأن ما في الأرض على أقسام منها ما لا منفعة فيه ظاهرا ومنها ما له جهة منفعة واحدة ومنها ما له منافع متعدّدة مثل الأكل واللّبس ونحوهما وهذا أيضا