الاستكشاف المذكور أنما هو بعد الفراغ عن اعتبارها وليست مسألة البراءة محلاّ للبحث عن ذلك إذ المحلّ لذلك هي مسألة الإجزاء إذ يقال هناك إنّه بعد ما ثبت عقلا أو شرعا عدم تنجز التّكليف بالواقع في مورد البراءة كشف ذلك عن وجود مصلحة في العمل بها وما نسب إلى المشهور من قولهم بالإجزاء في العمل بالطّرق الظّاهريّة ربّما يومئ إلى التزامهم بوجود المصلحة فيها ثم إنّه يمكن أن يقال إنّ السّرّ في عملهم بأصالة البراءة في موارد الظنّ غير المعتبر مع كون الأحكام عندهم ناشئة من المصالح والمفاسد الكامنتين في الأشياء إن حسن الأشياء وقبحها موقوفان على العلم بها بمعنى أنّ المصالح والمفاسد مقتضيان للحسن والقبح ومع العلم بهذه الأشياء بعنوانها الذي حكم العقل أو الشّرع بها بهذا العنوان تتصف هذه الأشياء بالحسن والقبح الفعليين فالظّلم مثلا أنّما يتصف بالقبح عند العقل بعد العلم بكونه ظلما وكذا اتصاف الإحسان بالحسن وهكذا وكذلك العناوين الشّرعيّة وبالجملة أن ما يستقل بحكمه العقل أنّما يتّصف بالحسن والقبح بعد العلم بعنوانه تفصيلا كما عرفت وما لا يستقل بحكمه العقل أنّما يتّصف بأحدهما بعد العلم ولو إجمالا بكونه معنونا بعنوان الموضوع الواقعي المقتضى لثبوت الحكم في الواقع أو يكون الفعل بعنوانه المعلوم موضوعا للحكم الواقعي وإن كان الاستكشاف عنه بالعلم بأمر الشّارع به وذلك لأنّ الشّبهة في مورد البراءة إن كانت موضوعيّة فاتصاف الموضوع المشتبه بالحسن أو القبح الفعليين موقوف على العلم باتصافه بعنوان موضوع الحكم الواقعي مثل أن اتصاف المائع المردّد بين الخمر والخلّ بالقبح الفعلي على تقدير كونه خمرا في الواقع موقوف على العلم باتّصافه بالخمرية في الواقع وإن كانت حكميّة فاتّصاف الموضوع الكلّي الّذي اشتبه حكمه كشرب التتن ودعاء رؤية الهلال موقوف على العلم بكون هذا الموضوع الكلي بعنوانه الكلي موضوعا للحكم الواقعي المحتمل وهو موقوف على العلم بهذا الحكم في الواقع وأمّا ما لم يستقل به العقل ولم يرد عليه أمر أو نهي من الشارع فلا دليل على اتصافه بالحسن أو القبح إذ المتيقّن من حكمهم بكون الأحكام تابعة للمصالح والمفاسد هو ذلك ويشهد به إجماعهم على صحّة الصّلاة في الدّار المغصوبة من الجاهل بالموضوع إذ لو لم يكن حسن الأشياء وقبحها مشروطين بالعلم بعنوان المأمور به والمنهي عنه لكان المتعين هو الحكم ببطلان الصّلاة إذ كما أنّ الأمر لا يجتمع مع النّهي في موضوع واحد كذلك حسن الفعل وقبحه مضافا إلى أنّ المصالح والمفاسد الواقعيين لو كانتا علتين واقعيّتين للحسن والقبح الفعليين المستتبعين للأمر والنّهي المنجزين لزم منه وجوب الاحتياط في موارد الشّبهة البدوية دفعا للضّرر المحتمل إذ المصلحة والمفسدة تابعتان لنفس الفعل في الواقع من دون مدخليّة للعلم والجهل فيهما نظير المضارّ الدّنيويّة فحيث تحتمل المفسدة يجب دفعها ومجرّد قبح الخطاب بلا بيان لا يدفع هذا الاحتمال لفرض كونها تابعة لنفس الفعل لا لخطاب الشّارع بخلاف احتمال العقاب لكونه مترتّبا على خطابه لا على نفس الفعل فالقول بأصالة البراءة في الشبهات البدوية لا يتم إلاّ على القول بكون المصالح والمفاسد الواقعيين من قبيل مقتضيات الحسن والقبح الفعليين لا من عللهما التّامّة فلا يجب دفع مثل هذه المفاسد وإن كانت مظنونة أيضا لفرض عدم كونها مفسدة فعلية وإن صلحت لذلك فإن قلت إنّه إذا لم يجب دفع المفسدة المظنونة وجاز العمل بأصالة البراءة في موردها لزم منه إفحام الأنبياء عليهمالسلام إذ مدّعي النّبوة لو دعا النّاس إلى النظر إلى معجزته لا يجب عليهم على ما ذكرت النظر إلى معجزته عملا بأصالة البراءة عن وجوب النّظر إذ غاية ما يلزم من ترك النّظر هو احتمال المفسدة في تركه والفرض عدم استقلال العقل بوجوب دفع المظنونة منها فضلا عن المشكوك فيها قلت أوّلا إن حكم العقل بوجوب النّظر هنا أنّما هو لأجل قيام احتمال العقاب في المخالفة وأصالة البراءة لا ترفع هذا الاحتمال لأنّ العقل أنّما يستقل بقبح العقاب من دون بيان فيما أمكن فيه البيان من الشّارع وبيان وجوب النظر هنا غير ممكن من مدعي النّبوة لتوقفه على ثبوت نبوّته والفرض عدم ثبوته بعد بخلاف ما نحن فيه لكون احتمال العقاب فيه مندفعا بأصالة البراءة والمفسدة المظنونة في المخالفة غير واجبة الدّفع وثانيا إنّ العمل بأصالة البراءة مشروط بالفحص فنفي وجوب النّظر بها موقوف على الفحص عنه وهو لا يتمّ إلاّ بالنّظر لانحصار طريق الفحص عنه فيه كما هو واضح ثمّ إنّ هنا وجوها أخر في الجواب عن دليل وجوب دفع المفسدة المظنونة بطول الكلام بذكرها وذكر ما فيها (قوله) فحاصل ذلك إلخ أي الدّليل (قوله) ترجيح المرجوح إلخ قد تمسك بهذا الدّليل العلاّمة في النّهاية وولده فخر الدّين والسّيّد عميد الدّين والمقدّس الأردبيلي وحكي أيضا عن أبي الصّلاح قدّس الله أسرارهم ولعلّه من هنا قد نسب صاحب المفاتيح القول باعتبار مطلق الظنّ إلى ظاهر العلماء ومقتضى هذا الدّليل كون العمل بالظنّ من باب الاحتياط وكون المظنون أقرب إلى الواقع من الموهوم ولكن ظاهر من تمسّك به كون الظنّ حجّة شرعيّة ولذا قد عملوا بالظنّ فيما كان مخالفا للاحتياط أو لم يمكن الاحتياط فيه إذ قد يظن الوجوب أو الحرمة ويكون الطّرف الموهوم سواهما وقد يعكس وقد يدور الأمر بين الوجوب والحرمة ويظن أحدهما من دليل غير معتبر والدّليل المذكور أنّما يثبت جواز العمل بالظنّ في الصّورة الأولى بل لا مانع من العمل بالوهم في الثانية بل هو أولى عقلا من العمل بالظنّ فيها كما لا يخفى ومع ذلك قد أطلق المتمسّكون به وجوب العمل بالظن لأجل قبح ترجيح المرجوح على الرّاجح وهو لا يتمّ إلاّ بجعل الظنّ دليلا شرعيّا بنفسه لا لأجل كون العمل به موافقا للاحتياط بالمعنى الذي عرفته وعرفت أنّ الدّليل المذكور لا يعطيه وكيف كان فتوضيح المراد بالدّليل المذكور أن كلا من التّرجيح بمعنى الاختيار والرّاجح والمرجوح مأخوذ من الرّجحان وهو يطلق على معان ثلاثة أحدها رجحان الإدراك فيكون المظنون حينئذ راجحا والموهوم مرجوحا وثانيها ما يراد من الرّجحان في مسألة الحسن والقبح بأن يراد من رجحان الفعل كونه بحيث يستحقّ تاركه العقاب وثالثها كون الفعل ذا مصلحة داعية إلى ارتكابه فيراد بالمرجوح بقرينة المقابلة ما خلي عن هذه المصلحة والمراد بالرّاجح والمرجوح في الدّليل المذكور هو المعنى الأوّل كما هو ظاهر اللّفظ فيكون المراد بالرّاجح هو المظنون