فلما مات والدى لم يكن [١٩٦ ا] أحبّ إلىّ من انقضاء المأتم ، حتى أنظر ما فى الورقتين ؛ فلما انقضى المأتم فتحت الكوّة ، ثم استخرجت الورقتين ؛ فإذا فيهما : محمد رسول الله خاتم النبيين ، مولده بمكة ، ومهاجره بطيبة ، ليس بفظّ ولا غليظ ، ولا سخّاب (١) فى الأسواق ، ولا يجزى بالسيئة السيئة ، ولكن يجزى بالسيئة الحسنة ، ويعفو ويغفر ويصفح ؛ أمته الحمّادون الذين يحمدون الله على كل شرف وعلى كل حال ، وتذلّل ألسنتهم بالتكبير ، وينصر الله نبيهم على كل من ناوأه ؛ يغسلون فروجهم بالماء ، ويأتزرون على أوساطهم ، وأناجيلهم فى صدورهم ، وهم يأكلون قربانهم فى بطونهم ، ويؤجرون عليها ، وتراحمهم بينهم تراحم بنى الأب والأم ؛ وهم أول من يدخل الجنة يوم القيامة من الأمم ؛ وهم السابقون والمشفّع لهم.
فلما قرأت هذا قلت فى نفسى : والله ما علمنى شيئا خيرا لى من هذا.
فمكثت بهذا ما شاء الله ، حتى بعث النبىّ صلىاللهعليهوسلم ، وبينى وبينه بلاد بعيدة ، لا أقدر على إتيانه.
وبلغنى أنه خرج بمكة فهو يظهر مرة ويستخفى أخرى ؛ فقلت : هو هذا ، وتخوّفت ما كان والدى خوّفنى وحذّرنى من الكذابين ، وجعلت أحبّ أن أتبين وأتثبت ، فلم أزل بذلك حتى بلغنى أنه أتى المدينة ، فقلت فى نفسى : إنى لأرجو أن يكون إياه ، وجعلت ألتمس السبيل إليه ، فلم يقدّر لى ، حتى بلغنى أنه توفى صلوات الله وسلامه عليه ؛ فقلت فى نفسى : لعله لم يكن الذى كنت أظن. ثم بلغنى أنّ خليفته قام مقامه ، ثم لم ألبث إلا قليلا حتى جاءتنا جنوده ،
__________________
(١) السخب الصخب.