فذهب أكثر من تكلّم في أصول الفقه من المعتزلة وغيرهم ـ وهو مذهب أبي عليّ وأبي هاشم ـ إلى أنّ النّسخ في الأخبار لا يجوز ، وعلّلوا ذلك بأن قالوا : تجويز ذلك في أخبار الله تعالى يوجب أن يكون أحد الخبرين كذبا ، وفصّلوا بينه وبين الأمر والنّهي (١).
وذهب أبو عبد الله البصري ، وصاحب «العمد» (٢) ، وهو الّذي اختاره سيّدنا
__________________
نسخ التّلاوة مطلقا أو نسخ تكليف الأخبار يعدّان من الأحكام الشّرعيّة ، فجاز أن يكون مصلحة في وقت فيثبته الشّارع ومفسدة في وقت آخر فينسخه ، وهذا ممّا لا خلاف فيه وقد اتّفق الجميع على إمكان ثبوته ونسخه ، إنّما الخلاف في أنّه هل يجوز أن ينسخ تكلّفنا بالأخبار عمّا لا يتغيّر بتكليفنا بالإخبار بنقيضه أم لا؟ قالت المعتزلة : أنّه لا يجوز ذلك لأنّه كذب ، والتّكليف بالكذب قبيح على الشّارع بناء على أصل التّحسين والتّقبيح العقليين. وإنّه يلزم على الله تعالى رعاية المصلحة في أوامره ونواهيه.
أمّا الثّاني : إنّ مدلول الخبر وثمرته امّا أن يكون ممّا لا يتغيّر ويعدّ من الثوابت الضروريّة ، كمدلول الخبر بوجود الإله وحدوث العالم وبعثة الأنبياء ، أو ممّا يتغيّر وليس له ثبوت بالضّرورة. أمّا الأوّل فنسخه محال بالإجماع ، وأمّا الثّاني فقد اختلف الأصوليون والمتكلّمون في حكمه على أقوال :
١ ـ المنع من النّسخ : قالوا : إنّ الأخبار عمّا يتغيّر مدلوله وثمرته سواء كان ماضيا كالإخبار عن إيمان زيد وكفره ، أو مستقبلا ، وسواء كان وعدا أو وعيدا أو حكما شرعيّا فإنّه يمتنع دفعه ، وهو مذهب القاضي أبي بكر الباقلّاني ، والجبّائيّان وأبي إسحاق الشّيرازي ، وابن حزم الأندلسي.
٢ ـ الجواز : وهو مذهب القاضي عبد الجبّار ، وأبي عبد الله البصري ، وأبي الحسين البصري ، والبيضاوي.
٣ ـ التفصيل بين الخبر الماضي والمستقبل : فمنع في الماضي وجوّز في المستقبل ، وهو مذهب أبي بكر الدّقاق ، ومحمود بن عبد الرحمن الأصفهانيّ.
انظر : «الذريعة ١ : ٤٢٧ ـ ٤٢٦ ، الأحكام للآمدي ٣ : ١٣٠ ، اللّمع : ٥٧ ، شرح اللّمع ١ : ٤٨٩ ، شرح المنهاج ١ : ٤٧٥ ، المعتمد ١ : ٣٨٧ ، الأحكام لابن حزم ٤ : ٤٧٤ ، ميزان الأصول ٢ : ٩٩٣ أصول السرخسي ٢ : ٥٩».
(١) انظر التعليقة رقم (١) صفحة ٥٠١.
(٢) هو القاضي عبد الجبّار بن أحمد الهمداني الأسدآبادي المعتزلي ، وكتابه (العمد) أحد الكتب الأربعة الّتي قام عليها علم أصول الفقه عند أهل السّنة ، قال ابن خلدون (ص ٤٥٥) : «وكان من أحسن ما ألّف في علم أصول الفقه كتاب (البرهان) لإمام الحرمين الجويني ، و (المستصفى) للغزالي ، وهما من الأشعريّة ، وكتاب (العمد) لعبد الجبّار ، وشرحه (المعتمد) لأبي الحسين البصري وهما من المعتزلة ، وكانت هذه الكتب الأربعة قواعد هذا الفن وأركانه)» وقد أخطأ ابن خلدون حين جعل المعتمد شرحا للعمد! ، ولم يصلنا كتاب