وذلك أنّ الله تعالى إنّما ينسخ الحكم بغيره إذا علم أنّ صلاح المكلّف في الثّاني ، وقد يجوز أن يكون صلاحه فيما هو أشقّ من الأوّل كما يجوز أن يكون صلاحه فيما هو أخفّ ، فإذا صحّ ذلك ، ولم يكن الأمر في التّكليف موقوفا على اختيار المكلّف ، لكنّه بحسب المعلوم ، فكيف يمنع من جواز نسخ الشّيء ممّا هو أشقّ منه؟ وهل يذهب ذلك إلّا على من لا يعرف أصل هذا الباب؟
ولا فرق بين من قال هذا ، وبين من قال : «لا يجوز أن يكلّف الله ابتداء ما يشقّ» على ما يذهب إليه قوم من التّناسخيّة (١) والقرامطة (٢) ، وقد ورد النّسخ بذلك ، ألا ترى
__________________
ومن الظاهريّة من أجازه عقلا ، ومنع منه سمعا.
انظر : «التبصرة : ٢٥٨ ، المعتمد ١ : ٣٨٥ ، الأحكام للآمدي ٣ : ١٢٥ ، الذريعة ١ : ٤٢٠ ، شرح اللّمع ١ : ٤٩٣ ، روضة النّاظر : ٤٣ ، ميزان الأصول ٢ : ١٠٠٠ ، أصول السرخسي ٢ : ٦٢».
(١) التناسخ عبارة عن تعلّق الروح بالبدن بعد المفارقة من بدن لآخر من غير تخلّل زمان بين التّعليقين ، وذلك لوجود الارتباط الوثيق بين الرّوح والجسد ، بحيث يستحيل وجود وبقاء أحدهما دون الآخر. ويقال : إنّ أول من ابتدع هذه الفكرة هو عبد الله بن الحارث المدائني استنادا إلى بعض الآيات والروايات. وتدور هذه الفكرة حول انتقال الروح في أجسام عديدة بحسب قربها وبعدها عن الخير ، فالكفار تنتقل أرواحهم إلى أجساد الحيوانات المشوهة المذمومة ، والمؤمنين تنتقل أرواحهم إلى أجساد طاهرة ، فهذه حالهم إلى أبد الآبدين. وبناء على هذه المقولة فإنّ استقرار الروح في إحدى الجسدين يعدّ عاقبة الصّالحين والطّالحين ، فلا جنّة ولا نار ولا بعث ولا قيامة. وقد اعتقدت أكثر فرق الغلاة والمشبّهة والمجسّمة بالتناسخ وقالت به.
(٢) من فرق الإسماعيليّة الباطنيّة ، وهذه النسبة جاءت من رجل يدعى حمدان بن الأشعث الملقّب بقرمط من أهالي الأهواز ، الّذي كان على مذهب عبد الله بن ميمون القدّاح ، وقد تمكّن القرمطي من تبوّإ الرئاسة بين أتباع ابن ميمون وبعث بدعاته إلى بلاد هجر وجنوب العراق ، وفي أواخر القرن الثّالث للهجرة استطاع أتباعه من احتلال البحرين وإقامة دولتهم فيها ومن هناك بدءوا بنشر دعوتهم في الأهواز والعراق والشّام واليمن وكانوا يدعون للثورة ضدّ الخلافة العبّاسية وحاربوها مرارا وهزموا جيوشها في البصرة عام ٢٨٨ ه وفي الشّام ومواقع أخرى. وكانوا يكفّرون جميع المسلمين ويستنكرون حجّهم إلى بيت الله الحرام ، وقد هاجموا قوافل الحجيج مرّات عديدة وقتلوا منهم عشرات الألوف ، وأخيرا أغار أبو طاهر القرمطي يوم ٨ ذي الحجّة عام ٣١٧ ه على مكّة المكرّمة وقتل وأسر آلاف الحجيج وأخذ معه حجر الأسود إلى الأحساء فبقي فيها مدّة عشرين سنة إلى أن أعيد إلى مكانه بمساعي الخليفة الفاطمي. وبقيت القرامطة إلى القرن الخامس الهجري لكنّها تبدّلت إلى لصوص وقطاع طرق تهجم على القوافل إلى أن اضمحلّت وبادت.