لأنّ هذا الإجماع قد دلّ على أنّ القول الآخر الّذي سوّغوه من قبل القول به قد حرم القول به ، وهذا نسخ للإجماع.
قيل له : هذا يسقط على مذهبنا ، لأنّهم إذا أجمعوا على أنّ كلّ واحد من القولين جائز لا يجوز أن يجمعوا بعد ذلك على أحد القولين ، لأنّ ذلك ينقض الإجماع الأوّل.
وإنّما يصحّ ذلك على مذهب من قال بالاجتهاد (١) بأن يقول : قالوا بقولين من طريق الاجتهاد ثمّ أدّاهم الاجتهاد إلى قول واحد ، وعلى هذا أيضا لا يكون ذلك نسخا ، لأنّهم إنّما سوّغوا القول بالأوّل بشرط أن لا يكون هناك ما يمنع من الاجتهاد ، كما أنّ من غاب عن الرّسول صلىاللهعليهوآلهوسلم فإنّما يجتهد في المسألة بشرط أن لا يكون من النّبي صلىاللهعليهوآلهوسلم نصّ ، فإذا وجد الإجماع على أحدهما عدم الشّرط الّذي له جوّزوا القول بالآخر ، فخرم القول به لهذه العلّة لا لأنّه منسوخ.
وأمّا القياس : فعندنا أنّه غير معمول به في الشّرع على ما ندلّ عليه في المستقبل ، فلا يصحّ نسخه ولا النّسخ به.
وأمّا على مذهب من قال بالعمل به ، فلا يصحّ أيضا نسخه (٢) ، لأنّه يتبع الأصول فما دامت الأصول ثابتة فنسخه (٣) لا يصحّ (٤).
والنّسخ به لا يصحّ أيضا ، لأنّ من شرط صحّته أن لا يكون في الأصول ما يمنع
__________________
(١) راجع التعليقة رقم (١) صفحة ٨ حول مفهوم الاجتهاد عند متقدّمي الإماميّة.
(٢) إنّ عدم جواز النّسخ بالقياس هو رأي الجماهير من الفقهاء والمتكلّمين ، وقد فصّل آخرون بين القياس الجليّ والخفي فأجازوه في الأوّل دون الثّاني.
انظر : «التبصرة : ٢٧٤ ، المستصفى ١ : ١٢٦ ، الإبهاج ٢ : ٢٧٨ ، الذريعة ١ : ٤٥٩ ، الأحكام للآمدي ٣ : ١٤٧ ، اللّمع : ٦٠ ، شرح اللّمع ١ : ٥١٢ ، المعتمد ١ : ٤٠٢ ، روضة النّاظر : ٨٠ ، إرشاد الفحول : ٢٨٨».
(٣) في النسختين : نسخه.
(٤) إنّ القائلين بجواز العمل بالقياس يمنعون صيرورة القياس ناسخا ومنسوخا ، أمّا عدم ناسخيّته لأنّ شرط صحّة القياس أن لا يكون في الأصول ما يمنع منه ومع وجوده فلا مجال لناسخيّته ، وأمّا عدم كونه منسوخا لأنّ القياس تابع لأصله وباق ببقاء أصله ، فلا يتصوّر نسخ حكمه مع بقاء أصله.