وإن كان القسم الثاني ، فقد اختلف العلماء في ذلك :
فذهب أبو هاشم (١) ، وأبو عبد الله (٢) ، ومن تبعهما (٣) إلى أنه لا يجوز أن يراد المعنيان المختلفان بلفظ واحد ، فإن دل الدليل على أنه أرادهما جميعا قالوا لا بد من أن نفرض أنه تكلم باللفظ مرتين ، أراد كل مرة منهما معنى واحدا ، وعلى هذا حملوا آية القرء بأن قالوا : لما دل الدليل على أنه أرادهما جميعا بحسب ما يؤدي اجتهاد المجتهد (٤) إليه علمنا أنه تكلم بالآية مرتين ، ثم أنزله على النبي صلىاللهعليهوآلهوسلم وقالوا (٥) في الحقيقة ، والمجاز ، والكناية (٦)* ، والصريح مثل ذلك ، وقالوا : لا يجوز (٧)* أن يريد بقوله : (أَوْ لامَسْتُمُ النِّساءَ)(٨) الجماع ، واللمس باليد ، وبقوله :
__________________
(١) هو أبو هاشم ، عبد السلام ، بن محمد ، بن عبد الوهاب الجبائي ، من كبار مفكري مدرسة الاعتزال والمنظرين لها ، ولد سنة ٢٧٧ ه وعاش ببغداد ، وكان أشهر من أبيه ، وصار أستاذا للصاحب بن عباد ، أطلق على أصحابه والمنتمين إلى مدرسته اسم البهشمية. توفي سنة ٣٢١ ه ببغداد ، له تصانيف كثيرة
(٢) هو الشيخ أبو عبد الله ، الحسين ، بن علي البصري ، المتكلم ، الفقيه ، أخذ الكلام عن أبي علي بن خلاد وأبي هاشم ، والفقه عن أبي الحسن الكرخي ، وألف في الفقه عدة كتب منها (شرح مختصر أبي الحسن الكرخي) ، وله مؤلفات عديدة في علم الكلام ، وصفه ابن النديم بقوله : (إليه انتهت رئاسة أصحابه في عصره ، وكان فاضلا ، فقيها ، متكلما ، عالي الذّكر ، نبيه القدر) ، كان معتزليا ويميل إلى أهل البيت عليهمالسلام ، ويقدم أمير المؤمنين عليهالسلام على من سواه ، وصنف كتاب (التفضيل) ولد سنة ٣٠٨ ه وتوفي ببغداد سنة ٣٦٩ ه.
(٣) وهذا مذهب جماعة مثل مالك ، وأبي حنيفة ، وأبي الحسن الكرخي ، وأبي حامد الغزالي ، وفخر الدين الرازي ، والجويني ، وجماعة آخرون.
راجع : «المعتمد في أصول الفقه ١ : ٣٠٧ ـ ٣٠٠ ، الإبهاج ١ : ١٦٦ ، المستصفى ٢ : ٧١ ، أصول السرخسي ١ : ١٢٦ و ١٦٢».
(٤) * هذا بناء على القول بالتصويب على تفسير بعض العامة ، وسيجيء بطلان القول به في الكلام في الاجتهاد.
(٥) في الأصل : فقالوا.
(٦) * الفرق بين المجاز والكناية ، أن المجاز مستعمل في غير الموضوع له بقرينة ، والكناية ما يستعمل في الموضوع له ، لكن المقصود الأصلي أن ينتقل ذهن السامع إلى لازم له لا لأن اللازم مستعمل فيه.
(٧) * إن الجواز هنا يستلزم الوجوب ، لأن المراد بالجواز بالنسبة إلى كل فرد من الكناية لا بالنسبة إلى نوعه ، وإلّا لم يتحقق التباين الكلي بين المجاز والكناية وهم بصدده.
(٨) النساء : ٤٣.