فأمّا إذا ظهر القول ولم يعرف له مخالف ، فمن جعله إجماعا أو في حكم الإجماع خصّ به أيضا العموم ، ومن لم يجعله إجماعا من حيث جوّز أن يكون السّاكت لو استفتي لأفتى بخلافه لجرى ذلك مجرى القول المختلف فيه ، والقول المختلف فيه بين الصّحابة اختلفوا في جواز تخصيص العموم به :
فذهب أبو عليّ إلى أنّه يجوز الأخذ بقول بعضهم وإن خالفه غيره فيه ، قال :
«لأنّ بعضهم كان يرجع إلى قول بعض من غير حجاج ، وهو المحكيّ عن محمّد بن الحسن (١) لأنّه حكي عنه أنّه قال : «ما أجمعوا عليه واختلفوا فيه جاز أن يقاس عليه ويتّخذ أصلا تجعل اختلافهم كاجتماعهم في أنّه أصل».
وقد حكي عن الشّافعي قديما أنّه كان يقول ذلك ، ويرتّب أقاويل الصّحابة فيقدّم أقاويل الخلفاء ، ثمّ قول أقدمهم في العلم ، فعلى هذه الوجوه لا يمتنعون من تخصيص الكتاب به ، لأنّه حجّة كالقياس وخبر الواحد عندهم.
وأمّا من قال : إنّ قولهم ليس بحجّة ، فإنّه لا يخصّ العموم به ، وهو مذهب أكثر الفقهاء (٢) ، وقول الشّافعي في الجديد (٢) ، لأنّه قدّم القول بالعموم على القول بقول الصّحابي إذا اختلف فيه.
__________________
انظر : «الذريعة ١ : ٣٠٦ ، المعتمد ١ : ٢٧٨ ، شرح اللّمع ١ : ٣٩١».
وأمّا قول الراوي : كما لو احتمل الخبر أمرين ، وهو في أحدهما أظهر ، لكن صرفه الراوي إلى الآخر ، فقد اختلف الأصوليون من العامّة ، فإنّ جماعة منهم ذهبوا إلى أنّه لا يخصّص به العموم مطلقا ، وقال آخرون : إنّه يقبل منه لأنّه أعرف بمعنى الخطاب ، وتوقّف قوم في ذلك. انظر : «شرح اللّمع ١ : ٣٩٠».
(١) هو أبو عبد الله محمّد بن الحسن الشيباني ، الفقيه العراقي ، ولد بواسط سنة ١٣١ ه ونشأ بالكوفة وجالس جماعة من الفقهاء والمحدّثين وتأثّر بأبي حنيفة وآرائه ، فصار من أصحاب الرّأي والقياس. سكن بغداد وارتبط بالبلاط العباسي فولاه الرشيد قضاء الرقّة ، ثمّ صحب الرشيد في خروجه إلى خراسان ، فمات بالري سنة ١٨٩ ه ، تزيد مصنّفات الشيباني على السبعين ، والمعتقد أن لآرائه تأثيرا كبيرا في تطوّر الفقه الحنفي.
(٢) فقد نسب للشّافعي قوله في الجديد : «كيف آخذ بقول من لو عاصرته لحججته».
(١) انظر التعليقة رقم ١ صفحة ٣٦٠.