وحكي عن ابن عبّاس أنّه كان يذهب إلى أنّه يجوز تأخيره عن حال الخطاب ، وذلك مستبعد من قوله (١).
والّذي يدلّ على صحّة ما قلناه :
أولا : أنّ أهل اللّغة لا يعدّون ما انفصل عن الكلام استثناء ، كما لا يعدّون ما تقدّمه كذلك ، فلو جاز لأحد أن يخالف في المتأخّر فيسمّيه استثناء ، جاز لغيره أن يخالف في المتقدّم فيسمّه استثناء! ويدلّ أيضا : على أنّ الاستثناء متى انفصل عن حال الخطاب لا يفيد أصلا ، فكيف يجوز أن يكون استثناء من الكلام المتقدّم؟
فإن قالوا : الاستثناء إذا تأخّر ولا يستقلّ بنفسه فلا يفيد ، فإنّه يجوز أن يقرن به من الكلام ما يدلّ على أنّه متعلّق بالكلام الأوّل ، فيفيد حينئذ ويتعلّق به.
قيل له : إذا كان لا يفيد بنفسه وإنّما يتعلّق بالكلام الأوّل بلفظ يقترن به ، فقد صار المخصّص للكلام الأوّل اللّفظ الّذي اقترن بالاستثناء ، وإذا كان كذلك فلا معنى للاستثناء وكان استعماله لغوا.
وليس لهم أن يقولوا : إنّ القائل إذا قال : «رأيت القوم» ثمّ قال بعد زمان : «إلّا زيدا» وقال أردت بهذا استثناءه من اللّفظ الأوّل أفاد أنّه غير داخل في الجملة الأولى ، ولو لم يذكر الاستثناء أصلا واقتصر على هذا القول المقترن به لما أفاد ذلك ،
__________________
والبيضاوي عن الأدباء.
انظر : «المستصفى ٢ : ١٦٥ ، الإبهاج ٢ : ٨٩ ، المعتمد ١ : ٢٤٢ ، شرح اللّمع ١ : ٣٩٩ ، الذريعة ١ : ٢٤٤ ، ميزان الأصول ١ : ٤٥٦».
(١) نسب لابن عبّاس رحمهالله ثلاثة آراء : الجواز مطلقا ، والجواز إلى شهر ، والجواز إلى سنة [راجع المصادر الواردة في هامش رقم (١) صفحة ٣١٣] ، وأمّا استبعاد المصنّف نسبة هذا الرّأي لابن عبّاس فإنّه في محلّه ، وتابعة آخرون حيث نقل (شرح اللمع : ١ ـ ٣٩٩) عن الباقلّاني قوله : «هذه الحكاية بعيدة عنه مع فصاحته وبلاغته» وكذلك استبعده أبو إسحاق الشيرازي والغزالي وغيرهم. انظر تعليقة شارح كتاب (التبصرة) في هامش صفحة ١٦٢.