فإن تجاسر متجاسر إلى أن يقول : كل مسألة مما اختلفوا فيه عليه دليل قاطع ، ومن خالفه مخطئ فاسق! يلزمه أن يفسق الطائفة بأجمعها! ويضلل الشيوخ المتقدمين كلهم! فإنه لا يمكن أن يدعي على أحد موافقته في جميع أحكام الشرع ، ومن بلغ إلى هذا الحد لا يحسن مكالمته ، ويجب التغافل عنه بالسكوت.
وإن امتنع من تفسيقهم وتضليلهم ، فلا يمكنه إلا أن العمل بما عملوا به كان حسنا جائزا خاصة ، وعلى أصولنا (١)* أن كل خطأ وقبيح كبير (٢) فيمكن أن يقال : إن خطأهم كان صغيرا ، فانحبط (٣) على ما تذهب إليه المعتزلة (٤) ، فلأجل ذلك لم يقطعوا الموالاة وتركوا التفسيق فيه والتضليل.
فإن قال قائل (٥)* : أكثر ما في هذا الاعتبار أن يدل على أنهم غير مؤاخذين بالعمل بهذه الأخبار ، وأنه قد عفي عنهم ، وذلك لا يدل على صوابهم ، لأنه لا يمتنع
__________________
(١) * إشارة إلى أنه على أصول المعتزلة أيضا لا يمكن : إن يقال أن خطاءهم منحبط ، لأنه وإن كان صغيرا يصير مع الإصرار كبيرا عندهم ، ولا شك أن الإصرار فيما نحن فيه متحقق.
(٢) قال الشيخ المفيد (ره) : «إنه ليس في الذنوب صغيرة في نفسه ، وإنما يكون فيها بالإضافة إلى غيره ، وهو مذهب أكثر أهل الإمامة والإرجاء ، وبنو نوبخت ـ رحمهمالله ـ يخالفون فيه ويذهبون في خلافه إلى مذهب أهل الوعيد والاعتزال. أوائل المقالات : ٨٣ ، انظر أيضا الذخيرة : ٥٣٤ ـ ٥٣٣.
(٣) انظر تفصيل مسألة (التحابط بين الطاعة والمعصية) في «الاقتصاد فيما يتعلق بالاعتقاد» : الفصل ٢ ص ٢٠٦ ـ ١٩٣.
(٤) ويسمون أصحاب العدل والتوحيد أو القدرية والعدلية ، المشهور أن مؤسس المعتزلة هو واصل بن عطاء الغزال فإنه كان في أول أمره يحضر مجلس الحسن البصري فاختلفا في الفاسق ، فقال واصل وتبعه عمرو بن عبيد : إن الفاسق من أمة الإسلام لا مؤمن ولا كافر بل هو في منزلة بين المنزلتين ، فاعتزلا مجلس البصري ، ثم عظم أمرهما وأمر المعتزلة في التاريخ الإسلامي ، وكانت لها تأثيرات بعيدة المدى في مسار الفكر والثقافة الإسلامية.
(٥) * حاصلة أن ما ذكرتم إنما يدل على عدم ارتفاع استحقاق العقاب وهو لا ينافي العفو ، فيمكن أن يكون عدم تفسيقهم لأنه معفو عنهم لا لعدم استحقاقهم العقاب.