لإبراهيم ، حتى إذا كاد الحطب يساوي رأس الجدار سدّوا أبواب الحير وقذفوا فيه النار ، فارتفع لهبها ، حتى إن كان الطائر ليمرّ بها فيحترق من شدة حرّها ، وكانوا بنوا بيتا شامخا مسامتا للحير ، واتخذوا فوقه منجنيقا (١) ، فوضعوا إبراهيم في كفّة المنجنيق مقيّدا مغلولا ليرموه في النار ، فرفع رأسه إلى السماء فقال : اللهم أنت الواحد في السماء ، وأنا الواحد في الأرض ، ليس في الأرض أحد يعبدك غيري ، حسبي الله ونعم الوكيل ، فضجّت الملائكة والسماء والأرض والجبال وجميع الخلق إلا الثقلين ضجة واحدة وقالت : أي ربنا ، إبراهيم يحرق فيك ، فائذن لنا في نصرته؟ فقال : أنا أعلم به ، وإن دعاكم فأغيثوه. فقال له خازن المياه : يا إبراهيم إن أردت أخمدت النار ، فإن خزائن الأمطار والمياه بيدي ، وأتاه خازن الرياح فقال : إن شئت طيرت النار في الهواء ، فقال إبراهيم : لا حاجة لي إليكما ، فقذفوه في النار وهو ابن ست عشرة سنة ، ـ وقيل : ست وعشرين ـ فقال : حسبي الله ونعم الوكيل ، فاستقبله جبريل فقال : يا إبراهيم ، ألك حاجة؟ فقال : أما إليك فلا ، فقال له جبريل : فسل ربك؟ فقال إبراهيم : حسبي من سؤالي علمه بحالي ، فقال الله : (يا نارُ كُونِي بَرْداً وَسَلاماً عَلى إِبْراهِيمَ) ، فلم يبق نار على وجه الأرض إلا بطل عملها يومئذ ظنا منها أنها قد عنيت بذلك (٢). فسبحان من نزع عنها طبع الحر والإحراق ، وأبقى عليها وصف الضوء والإشراق.
__________________
(١) المنجنيق : القذاف التي ترمى بها الحجارة ، لفظ أعجمي معرّب ، وأصلها بالفارسية : (من جي نيك) أي : ما أجودني (لسان العرب ، مادة : مجنق).
(٢) انظر : تاريخ الطبري (١ / ١٤٧) ، وزاد المسير (٥ / ٣٦٦ ـ ٣٦٧).