قوله : (وَلكِنِ اخْتَلَفُوا) وجه هذا الاستدراك واضح ، فإنّ «لكن» واقعة بين ضدين ، إذ المعنى : ولو شاء الله الاتفاق لاتفقوا ولكن شاء الاختلاف فاختلفوا. وقال أبو البقاء : «لكن» استدراك لما دلّ الكلام عليه ، لأنّ اقتتالهم كان لاختلافهم ، ثم بيّن الاختلاف بقوله : «فمنهم من آمن ، ومنهم من كفر» فلا محلّ حينئذ لقوله : «فمنهم من آمن».
وقوله : (وَلَوْ شاءَ اللهُ مَا اقْتَتَلُوا) فيه قولان :
أحدهما : أنها الجملة الأولى كرّرت تأكيدا قاله الزمخشري.
والثاني : أنها ليست لتأكيد الأولى ، بل أفادت فائدة جديدة ، والمغايرة حصلت بتغاير متعلّقهما ، فإنّ متعلّق الأولى مغاير لمتعلّق المشيئة الثانية ، والتقدير في الأولى : «ولو شاء الله أن يحول بينهم وبين القتال بأن يسلبهم القوى والعقول ، وفي الثاني : ولو شاء لم يأمر المؤمنين بالقتال ، ولكن شاء أمرهم بذلك. وقوله : (وَلكِنَّ اللهَ يَفْعَلُ ما يُرِيدُ) هذا استدراك أيضا على المعنى ، لأنّ المعنى : ولو شاء الله لمنعهم من ذلك ، ولكنّ الله يفعل ما يريد من عدم منعهم من ذلك أو يفعل ما يريد من اختلافهم.
(يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا أَنْفِقُوا مِمَّا رَزَقْناكُمْ مِنْ قَبْلِ أَنْ يَأْتِيَ يَوْمٌ لا بَيْعٌ فِيهِ وَلا خُلَّةٌ وَلا شَفاعَةٌ وَالْكافِرُونَ هُمُ الظَّالِمُونَ (٢٥٤) اللهُ لا إِلهَ إِلاَّ هُوَ الْحَيُّ الْقَيُّومُ لا تَأْخُذُهُ سِنَةٌ وَلا نَوْمٌ لَهُ ما فِي السَّماواتِ وَما فِي الْأَرْضِ مَنْ ذَا الَّذِي يَشْفَعُ عِنْدَهُ إِلاَّ بِإِذْنِهِ يَعْلَمُ ما بَيْنَ أَيْدِيهِمْ وَما خَلْفَهُمْ وَلا يُحِيطُونَ بِشَيْءٍ مِنْ عِلْمِهِ إِلاَّ بِما شاءَ وَسِعَ كُرْسِيُّهُ السَّماواتِ وَالْأَرْضَ وَلا يَؤُدُهُ حِفْظُهُما وَهُوَ الْعَلِيُّ الْعَظِيمُ)(٢٥٥)
قوله تعالى : (أَنْفِقُوا) : مفعوله محذوف ، تقديره : شيئا ممّا رزقناكم فعلى هذا (مِمَّا رَزَقْناكُمْ) متعلق بمحذوف في الأصل لوقوعه صفة لذلك المفعول ، وإن لم تقدّر مفعولا محذوفا فتكون متعلقة بنفس الفعل. و «ما» يجوز أن تكون بمعنى الذي ، والعائد محذوف أي : رزقناكموه ، وأن تكون مصدرية فلا حاجة إلى عائد ، ولكن الرزق المراد به المصدر لا ينفق ، فالمراد به اسم المفعول ، وأن تكون نكرة موصوفة وقد تقدّم تحقيق هذا عند قوله : (وَمِمَّا رَزَقْناهُمْ يُنْفِقُونَ)(١).
قوله : (مِنْ قَبْلِ) متعلق أيضا بأنفقوا ، وجاز تعلّق حرفين بلفظ واحد بفعل واحد لاختلافهما معنى ؛ فإنّ الأولى للتبعيض والثانية لابتداء الغاية ، و «أن يأتي» في محلّ جر بإضافة «قبل» إليه أي : من قبل إتيانه.
وقوله : (لا بَيْعٌ فِيهِ وَلا خُلَّةٌ) إلى آخره : الجملة المنفيّة صفة ل «يوم» فمحلّها الرفع. وقرأ «بيع» وما بعده مرفوعا منونا نافع والكوفيون وابن عامر ، وبالفتح أبو عمرو وابن كثير ، وتوجيه ذلك ، مذكور في قوله : (فَلا رَفَثَ وَلا فُسُوقَ)(٢) فلينظر ثمّة.
__________________
(١) سورة البقرة ، آية (٣).
(٢) سورة البقرة ، آية (١٩٧).