بمذهب أبي حنيفة : وهو أنّ الفيئة في مدة أربعة الأشهر ، ويؤيّده القراءة المتقدّمة احتاج إلى تأويل الآية بما نصّه : «فإن قلت : كيف موقع الفاء إذا كانت الفيئة قبل انتهاء مدة التربّص؟ قلت : موقع صحيح ، لأنّ قوله : (فَإِنْ فاؤُ ، وَإِنْ عَزَمُوا) تفصيل لقوله : «للذين يؤلون من نسائهم ، والتفصيل يعقب المفصّل ، كما تقول : «أنا نزيلكم هذا الشهر فإن أحمدتكم أقمت عندكم إلى آخره ، وإلّا لم أقم إلّا ريثما أتحول».
قال الشيخ (١) : «وليس بصحيح ، لأنّ ما مثّله ليس بنظير الآية ، ألا ترى أنّ المثال فيه إخبار عن المفصّل حاله ، وهو قوله : أنا نزيلكم هذا الشهر ، وما بعد الشرطين مصرّح فيه بالجواب الدالّ على اختلاف متعلّق فعل الجزاء ، والآية ليست كذلك ، لأنّ الذين يؤلون ليس مخبرا عنهم ولا مسندا إليهم حكم ، وإنما المحكوم عليه تربّصهم ، والمعنى : تربّص المؤلين أربعة أشهر مشروع لهم بعد إيلائهم ، ثم قال : «فإن فاؤوا وإن عزموا» فالظاهر أنّه يعقب تربّص المدة المشروعة بأسرها ، لأنّ الفيئة تكون فيها ، والعزم على الطلاق بعدها ، لأنّ التقييد المغاير لا يدلّ عليه اللفظ ، وإنما يطابق الآية أن تقول : «للضيف إكرام ثلاثة أيام ، فإن أقام فنحن كرماء مؤثرون وإن عزم على الرحيل فله أن يرحل» فالمتبادر إلى الذّهن أنّ الشرطين مقدّران بعد إكرامه».
قوله تعالى : (وَالْمُطَلَّقاتُ يَتَرَبَّصْنَ) : مبتدأ وخبر ، وهل هذه الجملة من باب الخبر الواقع موقع الأمر أي : ليتربّصن ، أو على بابها؟ قولان. وقال الكوفيون : إنّ لفظها أمر على تقدير لام الأمر ، ومن جعلها على بابها قدّر : وحكم المطلقات أن يتربّصن ، فحذف «حكم» من الأول و «أن» المصدرية من الثاني ، وهو بعيد جدا.
و «تربّص» يتعدّى بنفسه لأنه بمعنى انتظر ، وهذه الآية تحتمل وجهين ، أحدهما : أن يكون مفعول التربص محذوفا وهو الظاهر ، تقديره : يتربّصن التزويج أو الأزواج ، ويكون «ثلاثة قروء» على هذا منصوبا على الظرف ، لأنّه اسم عدد مضاف إلى ظرف ، والثاني : أن يكون المفعول هو نفس «ثلاثة قروء» أي ينتظرون مضيّ ثلاثة قروء.
وأمّا قوله : (بِأَنْفُسِهِنَ) فيحتمل وجهين :
أحدهما وهو الظاهر : أن يتعلّق ب «يتربّصن» ، ويكون معنى الباء السببية أي : بسبب أنفسهنّ. وذكر الأنفس أو الضمير المنفصل في مثل هذا التركيب واجب ، ولا يجوز أن يؤتى بالضمير المتصل ، لو قيل في نظيره : «الهندات يتربّصن بهنّ» لم يجز لئلا يتعدّى فعل المضمر المنفصل إلى ضميره المتصل في غير الأبواب الجائز فيها ذلك.
والثاني : أن يكون «بأنفسهنّ» تأكيدا للمضمر المرفوع المتصل وهو النون ، والباء زائدة في التوكيد ، لأنه يجوز زيادتها في النفس والعين مؤكّدا بهما. تقول : جاء زيد نفسه وبنفسه وعينه وبعينه. وعلى هذا فلا تتعلّق بشيء لزيادتها. لا يقال : لا جائز أن تكون تأكيدا للضمير ؛ لأنّه كان يجب أن تؤكّد بضمير رفع منفصل ، لأنه لا يؤكّد الضمير المرفوع المتصل بالنفس والعين إلّا بعد تأكيده بالضمير المرفوع المنفصل فيقال : زيد جاء هو نفسه عينه ، لأنّ هذا المؤكّد خرج عن الأصل ، لمّا جرّ بالباء الزائدة أشبه الفضلات ، فخرج بذلك عن حكم التوابع فلم يلتزم فيه ما التزم في غيره ، ويؤيّد ذلك قولهم : «أحسن بزيد وأجمل» ، أي : به ، وهذا المجرور فاعل عند البصريين ،
__________________
(١) انظر البحر المحيط (٢ / ١٨٤).