قوله : (مَنْ يَرْتَدِدْ) «من» شرطية في محلّ رفع بالابتداء ، ولم يقرأ هنا أحد بالإدغام ، وفي المائدة (١) اختلفوا فيه ، فنؤخّر الكلام على هذه المسألة إلى هناك إن شاء الله تعالى.
ويرتدد يفتعل من الردّ وهو الرجوع كقوله : (فَارْتَدَّا عَلى آثارِهِما قَصَصاً)(٢) : قال الشيخ (٣) : «وقد عدّها بعضهم فيما يتعدّى إلى اثنين إذا كانت عنده بمعنى صيّر ، وجعل من ذلك قوله : (فَارْتَدَّ بَصِيراً)(٤) أي : رجع» وهذا منه سهو ؛ لأنّ الخلاف إنما هو بالنسبة إلى كونها بمعنى صار أم لا ، ولذلك مثّلوا بقوله : «فارتدّ بصيرا» فمنهم من جعلها بمعنى «صار» ، ومنهم من جعل المنصوب بعدها حالا ، وإلا فأين المفعولان هنا؟ وأمّا الذي عدّوه يتعدّى لاثنين بمعنى «صيّر» فهو ردّ لا ارتدّ ، فاشتبه عليه ردّ ب «ارتدّ» ، وصيّر ب «صار».
و (مِنْكُمْ) متعلّق بمحذوف ؛ لأنه حال من الضمير المستكنّ في «يرتدد» ، و «من» للتبعيض ، تقديره : ومن يرتدد في حال كونه كائنا منكم ، أي : بعضكم. و «عن دينه» متعلّق بيرتدد. و «فيمت» عطف على الشرط والفاء مؤذنة بالتعقيب.
(وَهُوَ كافِرٌ) جملة حالية من ضمير «يمت» ، وكأنها حال مؤكّدة لأنها لو حذفت لفهم معناها ، لأنّ ما قبلها يشعر بالتعقيب للارتداد ، وجيء بالحال هنا جملة ، مبالغة في التأكيد من حيث تكرّر الضمير بخلاف ما لو جيء بها اسما مفردا.
وقوله : (فَأُولئِكَ) جواب الشرط. قال أبو البقاء : و «من في موضع مبتدأ ، والخبر هو الجملة التي هي قوله : (فَأُولئِكَ حَبِطَتْ) ، وكان قد سلف له عند قوله : (فَمَنْ تَبِعَ هُدايَ)(٥) أنّ خبر اسم الشرط هو فعل الشرط لا جوابه وردّ على من يدّعي ذلك بما حكيته عنه ثمّة ، ويبعد منه توهّم كونها موصولة لظهور الجزم في الفعل بعدها ، ومثله لا يقع في ذلك.
و «حبط» فيه لغتان : كسر العين ـ وهي المشهورة ـ وفتحها ، وبها قرأ أبو السّمّال في جميع القرآن ، ورويت عن الحسن أيضا. والحبوط : أصله الفساد ومنه : «حبط بطنه» أي : انتفخ ، ومنه «رجل حبنطى» أي : منتفخ البطن.
وحمل أولا على لفظ «من» فأفرد في قوله : «يرتدد ، فيمت وهو كافر» وعلى معناها ثانيا في قوله : «فأولئك» إلى آخره ، فجمع ، وقد تقدّم أن مثل هذا التركيب أحسن الاستعمالين : أعني الحمل أولا على اللفظ ثم على المعنى. وقوله : «في الدنيا» متعلّق ب «حبطت».
وقوله : (وَأُولئِكَ أَصْحابُ النَّارِ) إلى آخره تقدّم إعراب نظيرتها (٦). واختلفوا في هذه الجملة : هل هي استئنافية ، أي : لمجرّد الإخبار بأنهم أصحاب النار ، فلا تكون داخلة في جزاء الشرط ، بل تكون معطوفة على جملة الشرط ، أو هي معطوفة على الجواب فيكون محلّها الجزم؟ قولان :
__________________
(١) سورة المائدة ، آية (٥٤).
(٢) سورة الكهف ، آية (٦٤).
(٣) البحر المحيط (٢ / ١٥٠).
(٤) سورة يوسف ، آية (٩٦).
(٥) سورة البقرة ، آية (٣٨).
(٦) سورة البقرة ، آية (٣٩).