دون غيره. وقرأ الجمهور : «ترجع» بالتأنيث لجريان جمع التكسير مجرى المؤنث ، إلّا أنّ حمزة والكسائي ونافعا قرأوا ببنائه لفاعل ، والباقون ببنائه للمفعول ، و «رجع» يستعمل متعديا تارة ولازما أخرى. وقال تعالى : (فَإِنْ رَجَعَكَ اللهُ)(١) فجاءت القراءتان على ذلك ، وقد سمع في المتعدي «أرجع» رباعيا وهي لغة ضعيفة ، ولذلك أبت العلماء أن تجعل قراءة من بناه للمفعول مأخوذة منها. وقرأ خارجة (٢) عن نافع : «يرجع» بالتذكير وبنائه للمفعول لأن تأنيثه مجازي ، والفاعل المحذوف في قراءة من بناه للمفعول : إمّا الله تعالى ، أي : يرجعها إلى نفسه بإفناء هذه الدار ، وإمّا ذوو الأمور ؛ لأنه لمّا كانت ذواتهم وأحوالهم شاهدة عليهم بأنهم مربوبون مجزيّون بأعمالهم كانوا رادّين أمورهم إلى خالقها.
(سَلْ بَنِي إِسْرائِيلَ كَمْ آتَيْناهُمْ مِنْ آيَةٍ بَيِّنَةٍ وَمَنْ يُبَدِّلْ نِعْمَةَ اللهِ مِنْ بَعْدِ ما جاءَتْهُ فَإِنَّ اللهَ شَدِيدُ الْعِقابِ)(٢١١)
قوله تعالى : (سَلْ) : قرأ الجمهور : «سل» وهي تحتمل وجهين :
أحدهما : أن تكون من لغة : سال يسال مثل : خاف يخاف ، وهل هذه الألف مبدلة من همزة أو واو أو ياء؟ خلاف تقدّم في قوله : (فَإِنَّ لَكُمْ ما سَأَلْتُمْ)(٣) فحينئذ يكون الأمر منها : «سل» مثل «خف» ، لمّا سكنت اللام حملا للأمر على المجزوم التقى ساكنان فحذفت العين لذلك ، فوزنه على هذا فل.
والثاني : أن تكون من سأل بالهمز ، والأصل : اسأل ثم ألقيت حركة الهمزة على السين تخفيفا ، واعتددنا بحركة النقل فاستغنينا عن همزة الوصل فحذفناها ووزنه أيضا : فل بحذف العين ، وإن كان المأخذ مختلفا. وروى عباس عن أبي عمرو : «اسأل» على الأصل من غير نقل. وقرأ قوم : «اسل» بالنقل وهمزة الوصل ، كأنهم لم يعتدّوا بالحركة المنقولة كقولهم : «الحمر» بالهمز. وسيأتي لهذه المسائل مزيد بيان في مواضعها كما ستقف عليه إن شاء الله. و «بني» مفعول أول عند الجمهور.
وقوله : (كَمْ آتَيْناهُمْ) في «كم» وجهان :
أحدهما أنّها في محل نصب. واختلف في ذلك فقيل : نصبها على أنها مفعول ثان لآتيناهم على مذهب الجمهور ، وأول على مذهب السهيلي ، كما تقدّم تقريره. وقيل : يجوز أن ينتصب بفعل مقدّر يفسّره الفعل بعدها تقديره : كم آتينا آتيناهم ، وإنما قدّرنا ناصبها بعدها لأنّ الاستفهام له صدر الكلام ولا يعمل فيه ما قبله ، قاله ابن عطية ، يعني أنه عنده من باب الاشتغال.
قال الشيخ (٤) : «وهذا غير جائز إن كان «من آية» تمييزا ، لأن الفعل المفسّر لم يعمل في ضمير «كم» ولا في سببيّها ، وإذا لم يكن كذلك امتنع أن يكون من باب الاشتغال ، إذ من شرط الاشتغال أن يعمل المفسّر في ضمير الأول
__________________
(١) سورة التوبة ، آية (٨٣).
(٢) خارجة بن مصعب أحد أعلام القراءات روى عنه العباس بن الفضل وتوفي سنة ١٦٨ ه غاية النهاية (١ / ٦٨).
(٣) سورة البقرة ، آية (٦١).
(٤) انظر البحر المحيط (٢ / ١٢٦).