في «استغفر» للطلب على بابها. والمفعول الثاني هنا محذوف للعلم به ، أي : من ذنوبكم التي فرطت منكم.
قوله تعالى : (مَناسِكَكُمْ) : جمع «منسك» بفتح السين وكسرها ، وسيأتي تحقيقهما ، وقد تقدّم اشتقاقها قريبا. والقراء على إظهار هذا ، وروي عن أبي عمرو الإدغام ، قالوا : شبّه الإعراب بحركة البناء فحذفها للإدغام ، وأدغم أيضا «مناسككم» ولم يدغم ما يشبهه من نحو : (جِباهُهُمْ)(١) و (وُجُوهُهُمْ)(٢).
قوله : (كَذِكْرِكُمْ آباءَكُمْ) الكاف كالكاف في قوله : (كَما هَداكُمْ)(٣) إلّا في كونها بمعنى «على» أو بمعنى اللام ، فليلتفت إليه. والجمهور على نصب «آباءكم» مفعولا به ، والمصدر مضاف لفاعله على الأصل. وقرأ محمد بن كعب (٤) : «آباؤكم» رفعا ، على أنّ المصدر مضاف للمفعول ، والمعنى : كما يلهج الابن بذكر أبيه. وروي عنه أيضا : «أباكم» بالإفراد على إرادة الجنس ، وهي توافق قراءة الجماعة في كون المصدر مضافا لفاعله ، ويبعد أن يقال : هو مرفوع على لغة من يجري «أباك» ونحوه مجرى المقصور.
قوله : (أَوْ أَشَدَّ ذِكْراً) يجوز في «أشد» أن يكون مجرورا وأن يكون منصوبا : فأمّا جرّه فذكروا فيه وجهين :
أحدهما : أن يكون مجرورا عطفا على «ذكركم» المجرور بكاف التشبيه ، تقديره : أو كذكر أشدّ ذكرا ، فتجعل للذكر ذكرا مجازا ، وإليه ذهب الزجاج ، وتبعه أبو البقاء ، وابن عطية.
والثاني : أنه مجرور عطفا على المخفوض بإضافة المصدر إليه ، وهو ضمير المخاطبين. قال الزمخشري : «أو أشدّ ذكرا في موضع جر عطفا على ما أضيف إليه الذكر في قوله : (كَذِكْرِكُمْ) كما تقول : كذكر قريش آباءهم أو قوم أشدّ منهم ذكرا» وهذا الذي قاله الزمخشري معنى حسن ، ليس فيه تجوّز بأن يجعل للذكر ذكر ، لأنه جعل «أشد» من صفات الذاكرين ، إلا أن فيه العطف على الضمير المجرور من غير إعادة الجار وهو ممنوع عند البصريين ومحلّ ضرورة.
وأمّا نصبه فمن أوجه :
أحدها : أن يكون معطوفا على «آباءكم» قال الزمخشري ، فإنه قال : «بمعنى أو أشدّ ذكرا من آبائكم ، على أن «ذكرا» من فعل المذكور» وهذا كلام يحتاج إلى تفسير ، فقوله : «هو معطوف على آباءكم» معناه أنك إذا عطفت «أشدّ» على «آباءكم» كان التقدير : أو قوما أشدّ ذكرا من آبائكم ، فكان القوم مذكورين ، والذكر الذي هو تمييز بعد «أشدّ» هو من فعلهم ، أي : من فعل القوم المذكورين ، لأن جاء بعد «أفعل» الذي هو صفة للقوم ، ومعنى «من آبائكم» أي من ذكركم لآبائكم وهذا أيضا ليس فيه تجوز بأن جعل الذكر ذاكرا.
الثاني : أن يكون معطوفا على محلّ الكاف في «كذكركم» لأنها عندهم نعت لمصدر محذوف ، تقديره : ذكرا كذكركم آباءكم أو أشدّ ، وجعلوا الذّكر ذاكرا مجازا كقولهم : شعر شاعر ، وهذا تخريج أبي علي وابن جني.
الثالث : قاله مكي : أن يكون منصوبا بإضمار فعل ، قال : «تقديره : فاذكروه ذكرا أشد من ذكركم لآبائكم ،
__________________
(١) سورة التوبة ، آية (٣٥).
(٢) سورة آل عمران ، آية (١٠٦).
(٣) سورة البقرة ، آية (١٩٨).
(٤) محمد بن كعب القرظي من التابعين الثقات توفي سنة ١٠٨ ه ، غاية النهاية (٢ / ٢٣٣) ، وانظر ترجمتنا له في مقدمتنا على الوسيط للواحدي.