قال : (ثُمَّ أَفِيضُوا) لتفاوت ما بين الإفاضتين وأنّ إحداهما صواب والثانية خطأ».
قال الشيخ (١) : «وليست الآية نظير المثال الذي مثّله ، وحاصل ما ذكر أن «ثم» تسلب الترتيب وأنّ لها معنى غيره سمّاه بالتفاوت والبعد لما بعدها ممّا قبلها ، ولم يذكر في الآية إفاضة الخطأ حتى تجيء «ثم» لتفاوت ما بينها ، ولا نعلم أحدا سبقه إلى إثبات هذا المعنى ل «ثم». وهذا الذي ناقش الشيخ به الزمخشري تحامل عليه ، فإنه يعني بالتفاوت والبعد التراخي الواقع بين الرتبتين. وسيأتي له نظائر ، وبمثل هذه الأشياء لا يردّ كلام مثل هذا الرجل.
و «من حيث» متعلّق بأفيضوا ، و «من» لابتداء الغاية ، و «حيث» هنا على بابها من كونها ظرف زمان ، وقال القفال : «هي هنا لزمان الإفاضة» وقد تقدّم أن هذا قول الأخفش ، وتقدّم دليله ، وكأن القفال رام بذلك التغاير بين الإفاضتين ليقع الجواب عن مجيء «ثم» هنا ، ولا يفيد ذلك لأن الزمان يستلزم مكان الفعل الواقع فيه.
و (أَفاضَ النَّاسُ) في محلّ جرّ بإضافة «حيث» إليها. والجمهور على رفع السين من «الناس». وقرأ سعيد بن جبير : «الناسي» وفيها تأويلان :
أحدهما : أنه يراد به آدم عليهالسلام ، وأيّدوه بقوله : (فَنَسِيَ وَلَمْ نَجِدْ لَهُ عَزْماً)(٢).
والثاني : أن يراد به التارك للوقوف بمزدلفة ، وهم جمع الناس ، فيكون المراد بالناسي جنس الناسين. قال ابن عطية : «ويجوز عند بعضهم حذف الياء ، فيقول : «الناس كالقاض والهاد» قال : أمّا جوازه في العربية فذكره سيبويه ، وأمّا جوازه قراءة فلا أحفظه».
قال الشيخ (٣) : لم يجز سيبويه ذلك إلا في الشعر ، وأجازه الفراء في الكلام ، وأمّا قوله : «لم أحفظه» قد حفظه غيره ، حكاها المهدوي قراءة عن سعيد بن جبير أيضا.
قوله : (وَاسْتَغْفِرُوا اللهَ) «استغفر» يتعدّى لاثنين أولهما بنفسه ، والثاني «ب «من» ، نحو : استغفرت الله من ذنبي ، وقد يحذف حرف الجر كقوله :
٨٩٤ ـ أستغفر الله ذنبا لست محصيه |
|
ربّ العباد إليه الوجه والعمل (٤) |
هذا مذهب سيبويه وجمهور الناس. وقال ابن الطراوة : إنه يتعدّى إليهما بنفسه أصالة ، وإنما يتعدّى ب «من» لتضمّنه معنى ما يتعدّى بها ، فعنده «استغفرت الله من كذا» بمعنى تبت إليه من كذا ، ولم يجىء «استغفر» في القرآن متعدّيا إلّا للأول فقط ، فأمّا قوله تعالى : (وَاسْتَغْفِرْ لِذَنْبِكَ)(٥) (وَاسْتَغْفِرِي لِذَنْبِكِ)(٦) (فَاسْتَغْفَرُوا لِذُنُوبِهِمْ)(٧) فالظاهر أنّ هذه اللام لام العلة لا لام التعدية ، ومجرورها مفعول من أجله لا مفعول به. وأمّا «غفر» فذكر مفعوله في القرآن تارة : (وَمَنْ يَغْفِرُ الذُّنُوبَ إِلَّا اللهُ)(٨) ، وحذف أخرى : (وَيَغْفِرُ لِمَنْ يَشاءُ)(٩). والسين
__________________
(١) انظر البحر المحيط (٢ / ٩٩).
(٢) سورة طه ، آية (١١٥).
(٣) انظر البحر المحيط (٢ / ١٠٠).
(٤) تقدم.
(٥) سورة غافر ، آية (٥٥).
(٦) سورة يوسف ، آية (٢٩).
(٧) سورة آل عمران ، آية (١٣٥).
(٨) سورة آل عمران ، آية (١٣٥).
(٩) سورة المائدة ، آية (٤٠).