والرابع : أن يكون في محلّ نصب على الحال من فاعل «اذكروا» تقديره : مشبهين لكم حين هداكم. قال أبو البقاء : «ولا بدّ من حذف مضاف ؛ لأنّ الجثة لا تشبه الحدث.
والخامس : أن تكون الكاف بمعنى «على» كقوله : (وَلِتُكَبِّرُوا اللهَ عَلى ما هَداكُمْ)(١).
قوله : (وَإِنْ كُنْتُمْ مِنْ قَبْلِهِ لَمِنَ الضَّالِّينَ) : «إن» هذه هي المخففة من الثقيلة ، واللام بعدها للفرق بينها وبين النافية ، وجاز دخول «إن» على الفعل لأنه ناسخ. وهل هذه اللام لام الابتداء التي كانت تصحب «إنّ» أو لام أخرى غيرها ، اجتلبت للفرق؟ قولان هذا رأي البصريين. وأمّا الكوفيون فعندهم فيها خلاف : فالفراء يزعم أنها بمعنى «إن» النافية واللام بمعنى إلّا أي : ما كنتم من قبله إلا من الضالين ، ومذهب الكسائي التفصيل : بين أن تدخل على جملة فعلية فتكون «إن» بمعنى قد ، واللام زائدة للتوكيد وبين أن تدخل على جملة اسمية فتكون كقول الفراء ، وقد تقدّم طرف من هذه الأقوال.
و (مِنْ قَبْلِهِ) متعلق بمحذوف يدلّ عليه «لمن الضالين» ، تقديره : كنتم من قبله ضالّين لمن الضالين. ولا يتعلّق بالضالّين بعده ، لأنّ ما بعد أل الموصولة لا يعمل فيما قبلها ، إلا على رأي من يتوسّع في الظرف ، وقد تقدم تحقيقه. والهاء في «قبله» عائدة على «الهدى» المفهوم من قوله : (كَما هَداكُمْ).
(ثُمَّ أَفِيضُوا مِنْ حَيْثُ أَفاضَ النَّاسُ وَاسْتَغْفِرُوا اللهَ إِنَّ اللهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ (١٩٩) فَإِذا قَضَيْتُمْ مَناسِكَكُمْ فَاذْكُرُوا اللهَ كَذِكْرِكُمْ آباءَكُمْ أَوْ أَشَدَّ ذِكْراً فَمِنَ النَّاسِ مَنْ يَقُولُ رَبَّنا آتِنا فِي الدُّنْيا وَما لَهُ فِي الْآخِرَةِ مِنْ خَلاقٍ) (٢٠٠)
قوله تعالى : (ثُمَّ أَفِيضُوا مِنْ حَيْثُ) استشكل الناس مجيء «ثم» هنا من حيث إنّ الإفاضة الثانية هي الإفاضة الأولى ؛ لأنّ قريشا كانت تقف بمزدلفة وسائر الناس بعرفة ، فأمروا أن يفيضوا من عرفة كسائر الناس ، فكيف يجاء ب «ثم» التي تقتضي الترتيب والتراخي؟ وفي ذلك أجوبة :
أحدها : أنّ الترتيب في الذّكر لا في الزمان الواقع فيه الأفعال ، وحسّن ذلك أن الإفاضة الأولى غير مأمور بها ، إنما المأمور به ذكر الله إذا فعلت الإفاضة.
والثاني : أن تكون هذه الجملة معطوفة على قوله (وَاتَّقُونِ يا أُولِي) ففي الكلام تقديم وتأخير وهو بعيد.
الثالث : أن تكون «ثم» بمعنى الواو ، وقد قال به بعض النحويين ، فهي لعطف كلام على كلام منقطع من الأول.
الرابع : أن الإفاضة الثانية هي من جمع إلى منى ، والمخاطبون بها جميع الناس ، وبهذا قال جماعة كالضحاك ورجّحه الطبري ، وهو الذي يقتضيه ظاهر القرآن وعلى هذا ف «ثم» على بابها ، قال الزمخشري : «فإن قلت : كيف موقع «ثم»؟ قلت : نحو موقعها في قولك : «أحسن إلى الناس ثم لا تحسن إلى غير كريم» تأتي ب «ثم» لتفاوت ما بين الإحسان إلى الكريم والإحسان إلى غيره وبعد ما بينهما ، فكذلك حين أمرهم بالذكر عند الإفاضة من عرفات
__________________
(١) سورة البقرة ، آية (١٨٥).