قوله : (مِنْ عَرَفاتٍ) متعلّق ب «أفضتم» والإفاضة في الأصل : الصبّ ، يقال : فاض الماء وأفضته ، ثم يستعمل في الإحرام مجازا. والهمزة في «أفضتم» فيها وجهان ، أحدهما : أنها للتعدية فيكون مفعوله محذوفا تقديره : أفضتم أنفسكم ، وهذا مذهب الزجاج وتبعه الزمخشري ، وقدّره الزجاج فقال : «معناه : دفع بعضكم بعضا». والثاني : أن أفعل هنا بمعنى فعل المجرد فلا مفعول له.
قال الشيخ (١) : «لأنه لا يحفظ : أفضت زيدا بهذا المعنى الذي شرحناه ، وكان قد شرحه بالانخراط والاندفاع والخروج من المكان بكثرة.
وأصل أفضتم : أفيضتم فأعلّ كنظائره ، بأن نقلت حركة حرف العلة على الساكن قبله فتحرّك حرف العلّة في الأصل وانفتح ما قبله فقلب ألفا ، وهو من ذوات الياء من الفيض كما ذكرت لك ، ولا يكون من ذوات الواو من قولهم : فوضى الناس وهم أخلاط الناس بلا سائس.
وعرفات اسم مكان مخصوص ، وهل هو مشتقّ أو مرتجل؟ قولان :
أحدهما : أنه مرتجل وإليه ذهب الزمخشري قال : «لأنّ العرفة لا تعرف في أسماء الأجناس إلا أن تكون جمع عارف».
والثاني : أنه مشتقّ ، واختلف في اشتقاقه ، فقيل : من المعرفة لأن إبراهيم عليهالسلام لمّا عرّفه جبريل هذه البقعة فقال : عرفت عرفت ، أو لأنه عرّفه بها هاجر وإسماعيل لمّا أخرجتهما سارة في غيبته فوجدهما بها ، أو لأنّ آدم عرف بها حواء. وقيل : مشتقة من العرف وهو الرائحة الطيبة ، وقيل : من العرف وهو الارتفاع ومنه عرف الديك ، وعرفات جمع عرفة في الأصل ثم سمّي به هذا الموضع ، والمشهور أنّ عرفات وعرفة واحد. وقيل : عرفة اسم اليوم وعرفات اسم مكان ، والتنوين في عرفات وبابه فيه ثلاثة أقوال :
أظهرها : أنه تنوين مقابلة ، يعنون بذلك أنّ تنوين هذا الجمع مقابل لنون جمع الذكور ، فتنوين مسلمات مقابل لنون مسلمين ، ثم جعل كلّ تنوين في جمع الإناث ـ وإن لم يكن لهنّ جمع مذكر ـ كذلك طردا للباب.
والثاني أنه تنوين صرف وهو ظاهر قول الزمخشري فإنه قال : «فإن قلت : فهلّا منعت الصرف وفيها السببان : التعريف والتأنيث. قلت : لا يخلو التأنيث : إما أن يكون بالتاء التي في لفظها وإما بتاء مقدرة كما في «سعاد» ، فالتي في لفظها ليست للتأنيث ، وإنما هي مع الألف التي قبلها علامة جمع المؤنث ، ولا يصحّ تقدير التاء فيها ، لأنّ هذه التاء لاختصاصها بجمع المؤنث مانعة من تقديرها كما لا تقدّر تاء التأنيث في بنت ؛ لأنّ التاء التي هي بدل من الواو لاختصاصها بالمؤنث كتاء التأنيث فأبت تقديرها» فمنع الزمخشري أن يكون التأنيث سببا فيها فصار التنوين عنده للصرف.
والثالث : أنّ جمع المؤنث إن كان له جمع مذكر كمسلمات ومسلمين فالتنوين للمقابلة وإلّا فللصرف كعرفات.
والمشهور ـ حال التسمية به ـ أن ينوّن وتعربه بالحركتين : الضمة والكسرة كما لو كان جمعا ، وفيه لغة ثانية :
__________________
(١) انظر البحر المحيط (٢ / ٨٣).